المؤتمر الناصري العام ... الضرورة والتطور
الأستاذ الدكتور صلاح الدين دسوقي
في مسيرة ملايين الجماهير الهادرة على امتداد الوطن العربي خلف جثمان " القائد الخالد عبد الناصر" , انطلق صوتهم التلقائي تجسيداً لإرادتهم بقسم "بالروح .... بالدم ..... هنكمل المشوار" في إجماع تلقائي فطري , لم يوجهها إليه أحد سوى إدراكهم لطبيعة الخطر وتحديات المرحلة, والإصرار على استكمال المشروع النهضوي العربي الذي أرسى دعائمه القائد، ولمواصلة طريق الكفاح لبناء مجد أمه تحقيقاً لحلمها في الحرية والاشتراكية والوحدة.
في مصر، كان هناك الاتحاد الاشتراكي العربي وكانت طليعة الاشتراكيين وكان رجال النظام الناصري يحتلون المفاصل الرئيسية في إدارة الدولة، إلا أن كل ذلك لم يحل دون قيام السادات ـ خلال أشهر قليلة ـ بخطواته للانقلاب على النظام الناصري لصالح أمريكا والكيان الصهيوني الاستيطاني في فلسطين المحتلة.
وسرعان ما انطلقت الحركة الناصرية التلقائية تسعى لمقاومة انقلاب السادات. كان البعض منها من خلال بعض قيادات منظمة الشباب الاشتراكي وبعض كوادر طليعة الاشتراكيين , أو من حول منابر طلابية مثل "لقاء ناصر الفكري" بالنادي السياسي بجامعة عين شمس و "نادي الفكر الناصري" بجامعة القاهرة ,ورابطة الطلبة العرب الوحدويين الناصريين بالقاهرة والإسكندرية، وكانت تحركاتهم علنية إلى جانب بعض اللقاءات السرية لرموز من بينهم , جمع بينهم التداعي التلقائي أو المشاركة في العمل الميداني . وكان العمل جاريا حثيثا لتأسيس فرع "الطليعة العربية" في مصر في إطار عملية إعادة البناء بعد انقلاب مايو.
استمر الحال كذلك حتى دعا "السادات" إلى بناء المنابر من خلال "الاتحاد الاشتراكي العربي" والتي حددها بثلاث منابر. سعى عدد من القيادات الناصرية إلى الانضمام إلى منبر اليسار, الذي تحول إلى حزب " التجمع التقدمي الوحدوي " بعد صدور القانون عام 1977 بإطلاق نظام التعدد الحزبي ومن ثمة انضم إليه عدد من الناصريين ودار الحوار مع السيد كمال رفعت ومع الأستاذ كمال أحمد للانضمام للحزب الجديد ولكن لم يتمكن هذا الحزب من إقناع أعداد كبيرة من الناصريين بالانضمام إليه , وفضل العديد منهم التحرك للدعوة لإنشاء "منبر ناصري" له صفة التميز والانفراد ومسلحاً وداعياً للفكر الناصري. بعدها تقدم " كمال أحمد " بطلب رسمي لإنشاء حزب "تحالف قوى الشعب العامل" الذي سعى العديد من الناصريين لتحرير توكيلات بالانضمام إليه , منوها إلى أنه لن يسمح لـ "مراكز القوى" بالانضمام إليه. وقد نشأ نتيجة ذلك انقسام بين الناصريين الذين كانوا قد تقدموا بتوكيلات لدخول الحزب, وازداد تمسك قيادات وأعضاء نوادي الفكر الناصري ورموز "لقاء ناصر الفكري" بالإبقاء على استقلالهم وانفرادهم.
وبرفض الدولة والقضاء الموافقة على قيام الحزب, وبعد خروج عدد من القيادات الناصرية التي كانت في غياهب السجون بأحكام قضية 15 مايو 1971، دعا الأستاذ فريد عبد الكريم إلى إنشاء "الحزب العربي الاشتراكي الناصري" الذي انبثقت عنه الأمانة العامة للحزب "تحت التأسيس" التي كلفت أحد أعضائها "الأستاذ ضياء داوود" بالتقدم بطلب رسمي إلى مجلس الشورى لتأسيس حزب أطلق عليه "الحزب العربي الديمقراطي الناصري". وبعد رفض مجلس الشورى تأسيس الحزب , جرى اللجوء للقضاء حيث صدر الحكم في 12/4/1992 بالموافقة على تأسيسه.
وقد صاحب عملية انتخاب أول هيكل قيادي للحزب, انقسام حاد بين الناصريين , حتى اتجهت مجموعة المؤسسين الذين حصلوا على الشرعية وأطلق عليهم " مجموعة المكتب " ثم "مجموعة السبيكة" التي مثلت تحالفا بين مجموعة مايو ومجموعة حمدين صباحي., بينما اتخذت مجموعة العضوية والقيادات التي كانت تتحرك لبناء الحزب من خلال "الحزب العربي الاشتراكي الناصري" موقف عدم المشاركة . ورغم ذلك شاركت مجموعات وقيادات من الحركة الطلابية, ومجموعة القاهرة ممثلة بمحمد عواد ومحمد يوسف والنائب محمود زينهم، وبعض قيادات ورموز من الطليعة العربية في مصر .
وبذلك ظهر التشرذم والتفتيت بين الناصريين بشكل واضح في هذه المرحلة , والتي تعمقت بخروج أو إخراج بعض القيادات الناصرية التي كانت قد انضمت إلى الهيكل التنظيمي للحزب الناصري على إثر اعتراضات على أسلوب العمل وانعدام القدرة على تصحيح المسار في إطار العمل التنظيمي والسياسي والإعلامي داخل الحزب وصدرت قرارات من رئيس الحزب بعد اجتماع لجنته المركزية في الإسكندرية عام 1996بتجميد خمسة من القيادات الناصرية البارزة منهم أربعة كانوا أعضاء في المكتب السياسي للحزب .
وقد سعت مجموعة من عضوية الحزب الاشتراكي الناصري تحت التأسيس حتى تمكنوا من قيام " حزب الوفاق " وأصدروا جريدة " الوفاق " وسعت قيادات من نوادي الفكر الناصري إلى تأسيس "حزب الكرامة" بوكيل المؤسسين " حمدين صباحي". وخلال تلك المراحل , كانت "لجنة تخليد عبد الناصر" , وفي مجال المحامين تبلورت "جماعة المحامين الناصريين".
وتبلور من خلال تلك الانقسامات بين الناصريين في مصر، ومثيل لها في معظم ساحات العمل في الأقطار الأخرى, التمسك برموز وأسماء لقيادات بذاتها في كل مجموعة مع الرضا والقبول بتلك القيادات دون سواها. ومن هنا ظهرت الشخصنة وتبلورت، والتي كانت منذ بدايتها هي السبب الجوهري لظهور عملية التشرذم والتفتيت على السطح , والذي أصبح آفة فرضت نفسها بالسلب على الشارع السياسي في ساحة مصر وعلى المستوى القومي . وقد انعكست هذه الحالة بالسلب على فعالية الحزب العربي حتى كانت فعالية قومية التأمت في البحرين ووجهت فيها الانتقادات والضغوط على ضياء الدين داوود، الذي عاد إلى القاهرة ليشكل لجنة برئاسة السفير محمد وفاء حجازي لإجراء حوار مع القيادات التي أبعدت أو بعدت عن الحزب بهدف استعادتها أملا في إعادة الحياة إليه. امتدت هذه المهمة لعدد من الأشهر تقدم حجازي في نهايتها بتقرير عن نتائج المهمة التي كلف بها حيث خلص إلى اقتراح بإعادة بناء الحزب ودعوة الناصريين إلى مؤتمر عام ومن ثم إعادة بناء الهيكل القيادي. قوبل التقرير بالرفض الكامل وكان مصيره سلة المهملات كما كان متوقعا.
جاء العام 2001 ليشهد تشكيل "اللجنة الشعبية للاحتفال بالعيد الخمسين لثورة 23 يوليو" حيث عقدت عدد كبير من الاجتماعات والفعاليات التي توجت بعقد ندوة فكرية حول "الناصرية .. رؤية مستقبلية" وعهد إلى المركز العربي للإدارة والتنمية أمر تنظيم وعقد هذه الندوة بشكل احترافي يومي 26 و 27 من يوليو 2002 وبمشاركة حوالي 100 من الكوادر والقيادات الفكرية من مصر والوطن العربي. انتهت الندوة إلى توصية بضرورة بذل جهد مكثف لبلورة صياغة لفكر الثورة العربية تأخذ في الاعتبار المتغيرات التي طرأت على مدى نصف القرن الماضي وتوثق للتجربة الناصرية وتستشرف آفاق المستقبل.
وبالفعل تشكلت لجنة فكرية لإنجاز هذه "الوثيقة الفكرية للناصريين" وانكبت لمدة شارفت على العامين على العمل بعد أن تم الاتفاق على الهيكل العام للوثيقة. ومن ثمة عهدت إلى من توسمت فيه القدرة على إعداد ورقة رئيسية عن أحد أجزائها بحيث يتم إجراء المناقشة في اللجنة أكثر من مرة للاستقرار على الصياغة النهائية. تطلب هذا الأمر عقد 54 ورشة عمل شارك فيها 106 من الكوادر الفكرية حتى تم انجاز الوثيقة.
وجاءت الذكرى الخمسون للثورة لتشهد عدد من الفاعليات حضرها مئات الناصريين من مصر والوطن العربي وليعقد في خاتمتها "المؤتمر الناصري العام" لينظر ويناقش من خلال جلساته العامة واجتماعات لجانه الوثيقة، ويجري ما يراه مناسبا، وليعتمد هذه الوثيقة في صورتها النهائية. هكذا جاء هذا المؤتمر الضرورة ليرد على التحديات التي كادت تعصف بالتيار بل وبالفكرة ذاتها. جاء ليدشن مرحلة جديدة من العمل الناصري وليبعث الدماء إلي شرايين التيار من خلال اجتماعاته السنوية والأهم من ذلك عقد المعسكرات للشباب والطلائع وعقد الاجتماعات في عدد من الساحات والمحافظات، وتكريم بناة السد العالي بمعرفة مسيرة امتدت من الإسكندرية إلى أسوان، والمشاركة بقوة في ثورة يناير 2011، وإطلاق قناة العروبة الفضائية، وتأسيس "التجمع العربي والإسلامي لدعم خيار المقاومة" وغير ذلك من فعاليات الكثير. جاء المؤتمر التأسيسي ليمثل أمل مرتقب، طريقاً يمكن من خلاله التغلب على ظاهرة التشرذم والانقسام وتحقيق وحدة الناصريين في الحركة ولم الشمل الناصري في رحاب " الفكر الناصري " الجامع .
وكما جاء في اللائحة الداخلية للمؤتمر فإنه "تم تأسيسه من خلال اجتماعه التأسيسي في يوليو تموز 2004 في القاهرة بحضور مئات الفاعليات الناصرية بمصر والوطن العربي لمناقشة مشروع الوثيقة الفكرية للناصريين التي تم إعدادها على مدي عامين أعقبا الندوة التي عقدت في الذكرى الخمسين لثورة يوليو المجيدة تحت عنوان "الناصرية رؤية مستقبلية." وقد شارك في إعداد الوثيقة ما يربو على مائة من الناصريين المهتمين بالجانب الفكري ومن خلال أربع وخمسون ورشة عمل خصصت لهذه المهمة.
ليست هناك تعليقات
نرحب دائما بتعليقاتكم