حوار مع المسافة
حوار مع المسافة
المؤلف: محمود عبد الحميد
الإهداء
إليك أنت مع كُلِّ الذين يرون فى أنفسهم كما نراهم أنَّهُم
قد تأخَّرُوا علينا كثيرًا ، ونرجو ألَّا يطول انتظارنا أكثر من ذلك .
هذا واقعنا وعالمنا لابُدَّ له أن يتغيَّر.
وأنتم كُلُّ
ما تبقَّى لنا من أمل ممكن فى التغيير، نخبة جديدة واعدة ، عامرة قلوبها بصدق
وإيمان، تنتزع الحرية ، تُفكِّر بوعي وبصيرة ، تتقدَّمها الرؤية ، تعمل بكِدٍّ
واجتهادٍ وإخلاصٍ ، تبدع النموذج ، فيحاكيها المجتمع مُجَدَّدًا و مُجَدَّدًا
تتصدَّى لقيادته على تنوُّعِها مُجتمِعَة.
من أنت...؟
من
كنت.. ومن تكون..؟
من تكون
أنت؟
أيُّ فارق هو بين وجودك والعدم، هل تستشعر
هذا الفارق في نفسك، هل تدركه في ذاتك، وبأيِّ قَدْرٍ؟ وبأيِّ حجم؟ ومن أيِّ نوع؟
أو تأثير؟، أوَ تدرك اختلافًا ما كبيرًا أن تكون هُنا أو لا تكون؟، ماذا لو لم
تكُن هُنا، ماذا لو لم تأتِ؟
فِيْمَ
وجودك..؟
لماذا
جئت..؟
كيف تشعر..؟
ماذا تدرك من ذاتك..؟ كيف ترى نفسك..؟ صورتك أمام مرآتك، مرآة ذاتك، كيف هى؟ أوَ
هكذا تراها؟ وهكذا تريدها دائمًا على ما هي عليه؟
وعيك
واستيعابك..، مشاعرك وأحاسيسك، آيات ضعفك ومكامن قُوَّتك، رضاك وسعادتك، نقمك
وسخطك...
كيانك
ووجودك ورسالتك، ثمَّ ماذا عن رحلتك...؟
نتاجك،
تأثيرك... ما هو تأثيرك؟ كيف تراه؟
نوعه وحجمه ووصفه وقدره وفي أيِّ محيط وعلى
أيَّة دائرة من دوائر وجودك، وفي أيَّة محطة من محطات رحلتك، وماذا عن استمراره أو
انقطاعه أو توقُّفه؟، وكيف تراه وتُقيِّمه؟، سلبًا كان أمْ إيجابًا، وجودًا كان أو
عدمًا...؟
هل من فارق
تلحظه يُمثّله وجودك؟ وفي أيِّ الدوائر من حولك وما قَدْر الحاجة اليك؟، ما الذي
تغيَّر، أو ما الذي كان يمكن أن يتغيَّر أو يتطوَّر، أو أيَّة إضافة يمكن أن تمثِّل،
أيُّ جديد كان هو من خلقك أنت إبداع أو ابتكار أو مُجرَّد – هكذا - استمرار
واتِّباع و تكرار...؟
أمْ إنَّك
لم تأتِ بَعْدُ...؟!
لمْ
تأتِ مُختارًا كما لم يأتِ أحد مُختارًا، لكنك أتيت، أنت هُنا الآن أليس كذلك؟ جئت
ولو رغما عنك، فمن أنت ولماذا جئت..؟ ولماذا أنت هُنا الأن؟
لم تكن لتعرف كما لم يكُن لديك.
إمكانية الاختيار، أليس كذلك هُم الذين أخبروك،
كانوا قد اختاروا لك اسمًا ورسمًا وشكلًا وزيًّا على طريقتهم ومن أعماق بيئتهم
التي توارثوها، كما ونوعًا وحجمًا ووزنًا يضاف كجزء من تفاصيل حياتهم التي أصبحت
هي كُلّ حياتك، طباعهم وعاداتهم وأخلاقهم هُذِّبَت كانت أو تطوَّرَت أو تدهورَت،
لسانك لسانهم، لغتهم ثقافتهم توسَّعت كانت كبرت وامتدَّت أو تحجَّمت وتقزَّمت
وساءت، علاقاتهم ومعارفهم قويت كانت وتوطّدَت، أمْ ضعفت وتمصلحت وفسدَت وتفسَّخت
وانهارت.
دينهم ودِين آبائهم وطقوس عباداتهم ومعابدهم
وبيوتهم ومساكنهم وشوارعهم وأزقّتهم وحواريهم والميادين والجسور و(القصور)
و(الكبارى) ومدارسهم وتلقينهم لك وتعليمهم إيَّاك وعقولهم وطريقة تفكيرهم وماضيهم
وأجدادهم وأسلافهم وتراثهم، وكُلّ مفردات حضارتهم تقدَّمَت كانت وازدهرت أو تراجعت
وتخلَّفت وذبلت وضَمُرَت. لم تكُن لتعرف شيئًا من هذا ولم تكُن لتختار.
على أيَّة حال وفي كُلّ الأحوال، فأنت على هذه
الأرض نَبَتَّ، وتلك هي بيئتك التي شكَّلتك، وهكذا نشأت كيفما أرادوا لك،
فلرُبَّما أعَدُّوك وجهَّزوك صِدقًا أو ظنًّا أو وَهْمًا لمستقبل رُبَّما قد تريده
أنت، وتوسَّمُوا أو توهَّمُوا أنَّك رُبَّما تأتي بالخير لك ولهُم، ورُبَّما للإنسانية
والعالمين.
ولرُبَّما
أضافوك سجينًا آخر، رقم في التعداد، خلف قضبانهم وزنازينهم المُتعدِّدة بلا نهاية،
والمُتسعة لكُلِّ شيء، تدين بالطاعة العمياء، وتُقدِّم دائمًا كُلّ قرابين الولاء
لأئمَّتهم وكُبرائهم وجلَّاديهم وحُرَّاسهم وطُغاتهم ومُستعمريهم بما يُحقّق لك
ولهُم رُبَّما (الأمان والاستقرار) ولا سِيَّما الحفاظ على النوع والاستمرار.
فكم
يا ترى مَرَّ من عمرك على هذا الحال دونما أو قبلما يدور في رأسك السؤال؟!
من
أنت؟ فيم خلقت؟ لماذا جئت؟ لماذا أنت هنا؟ ماذا تريد؟ كيف تمضي؟ كيف هي الحياة؟ و
لماذا تعيش؟ وكيف يجب أن تعيش؟ وكيف تُحِب أن تحيا؟ ولماذا؟ ماذا تريد أن تكونه؟
وأين تريد أن تذهب؟ وكيف وإلى أين يمكنك أن تذهب بما أنت عليه الآن؟ ما الذي يمكنك
أن تحقِّق؟ ولماذا يجب أن تحقِّق؟ وماذا تنتظر؟! ولماذا تنتظر إن كنت أنت هو أنت
الذي تريد، وأنت تعرف ما تريد؟!
أيَّة
رسالة تحملها؟ وكيف ومتى تُؤدِّيها قبل أن تذهب؟ والرحيل يقين أكيد، فلسوف ترحل
إلى حيث لا يُمكنك أن تعود إلى نفس الوجود، وسوف لا تعلم شيئًا مِمَّا نعلم، ولن
نعلم عنك شيئًا بعد رحيلك، لكنك على يقين أكيد أنَّك سوف تذهب، وأنَّكَ بنفس
اليقين كنت إلى هُنا قد أتيت. فكم يا ترى تبقَّى أن يمُرَّ ويمضى إلى أن يصل
الطريق إلى نهايته المحتومة، وإنَّما ورُبَّما دونما اختيار، حيث لم يكن السؤال؟!
هذا حتميٌّ وأكيد، لكنَّهُ كما لا بُدَّ
وأنَّك تعلم ليس هذا هو اليقين الوحيد! فأيَّة مسافة قطعت من رحلتك وهي تمضي بك
ولست أنت الذي يمضي بها، وتختار ولم تُحدِّد وجهتها ومحطاتها؟! وأن تحدوك الآمال
والأمنيات والرغبات، فما الذي يمكن أن تحقِّق وما الذي يقتله الواقع ويغتاله
الانتظار؟! ومتى رُبَّما تعرف وجهتك الأكيدة ما بين مساحات ومسافات متداخلة
متشابكة تقطعها وتتقاطع معها الكثيرمن الأسئلة والأفكار والأقدار ودائمًا ما يصعب
عليك الاختيار واتخاذ القرار؟!
يقينك أنَّك لم تخلق نفسك وإنَّما أيَّة غاية هي من خلقك؟ وما هدفك وما الرسالة؟ أو يمكنك أن تخلق لنفسك سبيلًا تسلكه إليها، أي أن تعيد خلق نفسك من نفسك، وإلَّا فإنَّك تعيش ولكنَّك لن تحيا، لن تحيا الحياة التي تريد أو تختار، وسوف يأخذك التِّيه إلى حيث دائمًا تضيع، ويمضى بك وتنساق خلف كُلّ قطيع أو أيِّ قطيع!
مخلوق
أنت وإنَّما كيف يمكن أن تصبح هكذا، رُبَّما منسوخ أو ممسوخ أو مصنوع أو على أيَّة
هيئة أخرى، ومتى وكيف يمكنك أن تعرف أو تكون أنت الذي تريد؟!
ما لم
تخلق السؤال فلن يمكنك أبدًا أن تجيب. إنَّ آية الخلق فيك هي السؤال، والسؤال كذلك
مخلوق، لكنَّك أنت إن شئت خالقه ما لم تخلق السؤال وتبحث عن الإجابة فلن تكون
أبدًا أنت، وسوف تذهب وكأنَّما دون أن تكون قد جئت.
السؤال
مخلوق عقلي بشري أزلي، إنَّما هو من صُنْعك أنت، من خلقك أنت، أنت الذي لا بُدَّ
أن تخلق السؤال، ما لم تسأل فأيّ مخلوق تكون، صخر أو حجر، نبات أو جماد، أيّ شيء
آخر، غير أن تكون أنت الإنسان الذي أنت على شكله الآن؟، أنت الذي إن خلقت السؤال
فهذا إعلانك لكُلِّ الوجود بالوجود. إنَّما يكون آنذاك وجودك أنت، وجودك الذي
تريد، ويبدأ يوم أن تخلق السؤال، أن تدركه وتختار وتبحث الإجابة وتبدع الاختيار
وتتخذ القرار.
إذا كنت لم تخلق نفسك فما الحكمة من خلقك؟،
أيَّة غاية تلك وأيَّة رسالة خُلقت من أجْلها، ودائمًا يمكنك أن تخلق لنفسك سبيلًا
تسلكه إليها؟ وتُعيد خلق نفسك من نفسك يوم أن تخلق السؤال، فتستمر به وترعاه بحثًا
عن الإجابة وصولًا إلى اليقين.
يمكنك أن تعيش دون هذا السؤال، لكنَّك لن تحيا،
وتستوي بعد ذلك كُلُّ الخيارات ولو بالمصادفات ساءت أم حسنت، وقد تعيش كما لو كنت
كائنًا يشبه البشر، وإنَّما لا هدف ولا غاية ولا معنى ولا قيمة ولا رسالة ولا
وجود، وقد تغوص مبتعدًا في الهزل والعبث ويعتريك الشعور دائمًا بالاعتراض
والانتقاد والانقياد، وأنَّ لا معنى ولا قيمة لأيِّ شيء، وقد تتصوَّر أنَّهُ يمكنك
أن تتجنب كُلّ هذا الحوار وتمضي أو يمضي بك، وتظن أنَّك نجحت أو نجوت إلى أن تنتهي
رحلتك، لكنَّك حين تنظر خلفك وتقارن رحلتك بأيٍّ من المخلوقات أو الحيوانات أو
الزواحف التي تأكل وتشرب وتتكاثر في الليل أو في النهار وتُشبع غرائزها الفطرية،
وتحافظ على نوعها وترعى ذُرِّياتها، فلم يكُن هناك أيّ فارق حيث لم تدرك السؤال، وتخلق
الإجابة وتعرف من أنت.
وفي كُلّ الأحوال وفي الطريق بلا سؤال سوف تنحاز
دائمًا لمصالحك الخاصة الذاتية المباشرة الضيِّقة، قريبة كانت أمْ بعيدة، بحسب
ظنّك والأحوال، بل وسوف تسارع وتنافس وتصارع، وقد تُقاتل وقد تخسر وقد تكسب، ناهيك
عن سُنَّة التداول، فلو جاز لك أن تتوقّف وتُقيِّم ما فاتك من رحلتك فسوف تكتشف
أنَّك كنت دائمًا وفي كُلّ الحالات خاسرًا، لأنَّك ما لم تخلق السؤال وتتحقَّق من
الإجابة وتُحقِّق إجابتك فقد تكون عندها قد خسرت كُلَّ رحلتك.
ويبقى
السؤال دائمًا مخلوقًا بشريًّا مشروعًا محمودًا، ويستمرالسؤال مخلوقًا أزليًّا
أبديًّا مُستمِرّ التطوُّر والوجود، و دائمًا يبقى السؤال أنت، وأنت الإجابة.
أنَّهُ وكما لا بُدَّ أن يبدأ منك فإنَّ الإجابة حتمًا سوف تعود إليك وتنعكس عليك،
فأنت الذي خلقت السؤال، وفيك الإجابة ومنك، وفي كُلّ الأحوال يعود كُلّ ذلك إليك.
ثمَّ إنَّك من أين أتيت؟ وكيف وإلى أين وصلت
وأصبحت ما أنت عليه الأن؟
الزمان والمكان، هل كنت دائمًا هو ما أنت عليه
الآن؟ وهل بالضرورة أن تكون كما أنت عليه الآن! كيف أصبحت كذلك؟! كيف وصلت إليه؟
أهي صيرورة تاريخية؟ أو قدرية حتمية؟ هل هو نتاج
طبيعي لما جئت منه، أو يمتد فيك ويستمر بك سواء كنت تريد أو لا تريد؟ أم أنَّك خلق
آخر مختلف للإنسان الذي نعرفه عَبْرَ مراحل الوجود!
هل كان
كُلُّ ذلك الذي قد حدث وما زال يحدث بفِعلك أنت وبوعيك وإرادتك؟ أو رُبَّما بفِعل
الآخر غيرك وبتدخُّله؟ ورُبَّما بتخطيطه أوتآمره! أمْ كان ضعفًا فيك واستكانة
وتخاذلًا وانكسارًا وهزائم؟! أو أشياء أخرى تعلمها أو لا تعلمها أو كان كُلّ ذلك
معًا؟!
أين كُنت
أنت مُذْ ذاك الحين؟! وأين أصبحت الآن إذا اكتمل الاستيعاب على هذا التكوين؟!
من أين كنت قد أتيت؟ ومن أين تنحدر أصولك؟
وهل كان أو يمكن أن يكون لك الاختيار في هذا؟ لا
من حيث الزمان بكُلِّ تحوُّلاته وتبدُّلاته، ولا من حيث المكان بكُلِّ ما أحاطه
وأصابه من تغيير أو تطوير أو تدمير، إنَّما تستمر وما حولك من دوائر في كُلِّ حين،
شواهد في حلقات متواصلة على كُلِّ التغيُّرات والتبدُّلات، ولكُلٍّ أسبابه
وصُنَّاعه ونتائجه وتبعاته بحسب ما تقرأ وتعرف وترى..
ألست
آدميًّا من آبناء آدم سلالة قابيل وهابيل؟.
أنت
تنتمي لهذا الجنس البشري منذ خُلِق، لكنَّك الآن لست ابن ظروفه ومناخه وبيئته
وثقافته وحضارته وأسبابه ومشكلاته التي كانت، ولا حتى ابن كُلِّ تلك المراحل من
الانتقال والترحال عَبْرَ آلاف السنين وملايين الأميال، أنت ابن ما تبقَّى من كُلِّ
هذا فيك، أنت ابن ما وصل إليك وأوصلك إلى هُنا، واستمر فيك إلى أن أوصلك لِما أنت
عليه الآن.
فمن أين أتيت، أين كان نبتك والأصول والجذور،
من أين تنحدر، إلى أيَّة حضارة تنتمي؟
منذ عاد وثمود كانت هناك حضارات وانتهت، كما
انتهت حضارة سبأ وحضارة الرافدين، فهل جئت من حضارة الفراعنة في مصر، أو من حضارة
الأكَّاديين والأشوريين والبابليين في العراق، والفينيقيين في بلاد الشام سوريا
ولبنان وفلسطين والأردن، أمْ إنَّك تنتمي إلى الحضارة الصينية، أمْ جئت من حضارة
أرض اليونان، أو من الحضارة الفارسية والرومانية، أم إنَّك من بعد ذلك كُلّه تنتمي
إلى الحضارة العربية الإسلامية التي بدأت من أرض العرب واستمرَّت عليها وامتدَّت؟
أيمكن أن تكون مُنتميًا للحضارة في أوربا،
وانتقلت حين انتقل مركز الحضارة لأمريكا الشمالية، أو تنتمي إلى الشرق الأقصى حيث
اليابان والصين وبلاد النمور الأسيوية؟
وأيًّا كانت أمنياتك ورغباتك وهواك فهل كان
يمكنك تغيير بيئتك ونشأتك وانتمائك؟! هل كان يمكنك أن تكون على غير ما كنت عليه؟
أوَ
يمكنك تغيير ذاتك؟ هل يُمكنك اختيار أن تنتمي إلى الثقافة والحضارة الصينية مثلًا
أو الأسيوية عمومًا يابانية كانت أو هندية أو ماليزية أو تعيش كما سنغافورة؟
أوَ
يمكنك أن تنتمي إلى ذلك النموذج الغربي والأمريكي المنتصر الآن، والذي يبهرك
ويعجزك بتقدُّمه وتمدينه، فتكون جزءًا من تاريخه وتكوينه، وتتكلم لغته، وتفكر
بطريقته، وتعيش حياته وقيمه ومعتقداته وأحلامه، وتُحقّق أهدافك ضِمْنَ غاياته؟
إنَّما أنت
تنحدر من أصول لم تكُن لتختارها أنت، وتنتمي لحضارة لم تكُن أنت صانعها أيّما كان
حالها هي التي أنجبتك وفيها نشأت، أنت نتاجها كاملًا أو منقوصًا، وما أنت عليه
الآن وما أنت فيه إنَّما هو مفرداتها وتفاصيلها وثقافتها المُمتدَّة فيك.
وأنت
الذي تتفاعل مع أيّ مِمَّا تبقَّى منها واستمر، فإمَّا تُطوِّرها وتُزهرها وتُعيد
خلقها وإنتاجها وإبداعها، وإمَّا تنحدر بها وتزيد مرضها، وفد تقتلها وتُنهيها
وتعدمها وتعدم وجودها وذاتك معها.
وهُنا
قد يمكن أن يبدأ اختيارك ويكون قرارك وتكون أفكارك إنَّما بقَدْر وعيك واستيعابك
وتفكيرك وإبداعك أو تقليدك واتِّباعك.
فأيّ
لسان كنت وما زلت تتحدَّث، وأيَّة لغة كنت وما زلت تسمع وتكتب، وإن اعْوَجَّ لسانك
وأشياء أخرى، أيَّة ثقافة تعيش وتتفاعل وتُنتج، وأيَّة عادات وأعراف وتقاليد لك هي
مثل ما لقومك، وكان هناك تاريخ اشترك فيه أجدادك معًا، وعَيْش مُشترَك ومصالح
وجودية وبناءات مستقبلية كانت، وامتدادات جئت أنت معها ومنها، ففي هذه البيئة التي
ما زالت تتحدَّث لغتك، كان وجودك، وتَشكَّل عقلك ووعيك، وكانت ثقافتك وحضارتك
تتفاعل معها، تفهم وتُفكّر وتُعبِّر وتُقرِّر وتُنتج وتعيش.
أنت
ابن تلك اللغة التي أخرجتك إلى الوجود، واستقبلتك الحياة بها نبتًا من جذورها،
وتتحدَّثها الآن وإن تجيد غيرها أكثر منها، تستمر بك وتعيش بها، والثقافة التي
تنتجها وتتعاطاها وتفهمها وتتبادلها أنت وقومك وثقافتهم وحضارتهم وطريقة تفكيرهم
وتاريخهم وكُلّ الموروث فيهم وحياتهم ومشكلاتهم ومصالحهم ومستقبلهم، حتى إن هجرتهم
ولم تَعُد بينهم شئت هذا أمْ أبيت.. أعجبك هذا أمْ كرهت.
فلو
أنَّك مازلت فرعونيًّا مثلًا، وما زلت تنتمي لهذه الحضارة التي كانت، فهل ما زلت
تتحدَّث الهيروغليفية الآن وتفهمها؟، هل ما زلت تكتبها وتقرؤها وتُفكّر بها وتعيش
ثقافتها وتنتج حضارتها وتحياها، ويُحنطُّونك بعد موتك؟ أوَ هكذا كان أبوك
وأجدادك؟، أما زلت على هذا الدين وما زلت تعبد "أبيس" وتبني الأهرامات
وتحفظ فيها المومياوات، وتعيش بقوانينهم وعاداتهم وأعرافهم وتفاصيل حياتك وحياتهم
وإنتاجهم ونتاجهم؟...
لماذا
إذن لم تَعُد تُفكِّر كما كانوا يُفكِّرون؟ وتأكل مِمَّا يأكلون؟ وتلبس كما يلبسون
أو لا يلبسون؟، وتعيش كما كانوا يعيشون؟، ولم يَعُد حتى لديك البنيان الذي كان
لهُم، ولم تَعُد تحمل شيئًا من ملامحهم، لأنَّك لم تَعُد ابن هذه الحضارة في هذه
الفترة من التاريخ في هذا المكان على الأرض، وانقطعت بك وبينهم كُلّ الصِّلات، ولم
يَعُد شيئًا منهم ممتدًّا فيك، ولم تَعُد موصولًا بهم، تلك حضارة قد انتهت ولم
يتبقَّ منها إلَّا آثار وتاريخ يشهد عليهم وقتما كانوا. تلك أمَّة قد خلت كما خلت
أمم كثيرة من قبلكم.
إنَّما
أنت ابن الأن، ذلك الذي أتى عَبْرَ هذه المراحل الطويلة من التاريخ ومن الماضي
البعيد، وإنَّما فقط ذلك الذي ما زال مُمتدًّا فيك، والذي ما زلت موصولًا به، حتى
أوصلك لتكون أنت ما أنت عليه الآن بعد كُلِّ ما انقطع منك أو عنك، وما استمر فيك
أو استقر بك.
أنت بواقعك الذي أنت عليه الآن بما تفهم
وتُفكِّر وتُعبِّر وتنتج وتتفاعل إنَّما تعكس ثقافتك وحضارتك التي تنتمي إليها،
وما أنت عليه الآن موصول بآخر ما كنت عليه وما استمر فيك واستقر بك من حالة حياتية
كاملة ثقافية وحضارية، وإنَّما ما زالت بك مُستمِرّة.
عربيٌّ
أنت لآباء وأمَّهات وأجداد عرب، تتحدَّث العربية وتفهمها وتدين بها وإن تعدَّدت
اللهجات وتنوَّعت الأديان، أنت ابن الحضارة العربية، تعيش ثقافتها منذ كانت
وتستمر، تنحدر من أصول عربية وجذورك في الأرض عربية، وهكذا تفاعلت وأجدادك مع
الحضارات والثقافات والتاريخ وتشكلت هويتك العربية، ولسانك العربي وسِماتك وشكلك
ولونك وصفاتك، عربي أنت وإن لم تشأ وإن لم يعجبك ولم تفتخر، ويمكنك أن تبحث في
الجغرافيا والتاريخ، وتاريخ الجغرافيا وجغرافيا التاريخ، لأنَّهُ ليست كُلُّ أسباب
التغيُّرات واحدة، وليس بالضرورة أو دائمًا تكون بريئة أو مُبرَّأة، وإنَّ منها ما
يكون بفعل الطبيعة وتغيُّرات المناخ وتبدُّلات الزمن، ومنها ما يكون من صُنْع
البشر أكانوا من قومك أو أصدقائك، أو كانوا من عدو من أعدائك، فعلى أيَّة أرض
تعيش؟ وأين تنتهي حدودها الطبيعية؟ وكيف هي تبدُّلات المناخ فيها؟ كيف تختلف فيها
فصول المناخ الأربعة؟، وكيف هي خطوط الزمن فيها حين تمُرُّ بها من أدناها إلى أقصاها؟
وكيف ليلها ونهارها، ما هو حجم الاختلافات في كُلّ امتداداتها؟ وهل هي من طبيعة
واحدة أمْ مُتعدِّدة، وكيف طينها وليلها ونهارها وأنهارها والصحراء المُمتدَّة
فيها، ما الذي يحدُّها؟ وأين ينتهي امتدادها؟، ما اسمها وأسماء أجزائها
ومُكوِّناتها وولاياتها وأقاليمها وشوارعها وحواريها وكفورها ونجوعها؟، أليست تلك
التي من بينها فلسطين والأحواز والإسكندرونة وسبته ومليلة والقاهرة وبغداد ودمشق
وغيرها؟، أليست هي تلك الأرض المُمتدَّة من المحيط إلى الخليج لا يقطعها شيء ولا
يمنع اتصالها؟، تلك التي انحسر عنها البحر فخلَّفها هكذا قطعة واحدة، وهي دون
غيرها لها غير حدودها الطبيعية والتاريخية حدود أخرى مصطنعة ومختلقة وواقعية،
وكُلُّها حدود متنازع عليها ومُغتصَب منها ومفعول بها وفيها، هي تلك التي كان
يقطعها الأجداد من أقصاها إلى أقصاها فوق الجِمال أو سيرًا على الأقدام لا يمنعهم
مانع، ولا يَحُول بينهم حائل، وليس هناك بيِّنة من جبل شاهق أو بحر هائج أو مائج
أو محيط إلَّا في نهاية حدودها وامتداد لسانها، وهي التي يمكنك أن تتجوَّل بسيارتك
فيها من أوَّلها أو مركزها حتى تصل إلى منتهاها، ويمكن أن يقطع قطار واحد كُلَّ محطاتها
في ليلة واحدة. ويمكنك أن تبحث أو تسأل علماء الطاقة عَمَّا تملك وتختزن من طاقة،
ويمكنك أن تعرف من علماء الاقتصاد عن عظيم ثرواتها وكُلِّ الإمكانات والإمكانيات،
ويمكنك أن تتجوَّل بحثًا بين كُلّ علماء الزراعة والفلاحة والجيولوجيا
والتكنولوجيا والفلك والمستقبل وعلوم المصالح العُليا والخبراء الاستراتيجيين
والمُحللين إلى أن تصل إلى علماء الاجتماع وخبراء الاقتلاع والابتلاع!
وعلمي
علمك والعلم عند الله ولا حول ولا قوة إلَّا بالله. فأنت إذن جبرًا وقهرًا
واقتدارًا، إنسان عربيٌّ تعيش الحياة العربية الآن على هذه الأرض العربية الآن،
فكيف حالك الآن؟ وكيف تعيش؟ وهل تحيا؟!
إذن متى
يكون الاختيار؟ وأين وكيف يبدأ؟
إذا كنت أنت الآن أفضل حالًا وأكثر تطوُّرًا،
فلأنَّهُ كانت هناك مُقوِّمات ذلك التقدُّم الحضاري، وأنت تفاعلت معها وبنيت عليها
بوعيك غاياتك واستيعابك، قدراتك وإبداعاتك، واعتزازك بحضارتك التي تحمل عناصر
ومُقوِّمات التقدُّم فزدتها توهُّجًا، أو حافظت على تقدُّمها وانتصارها وتفاعلها
مع الحضارات وما تُقدِّمه للبشرية، فأنت إذن موصول بحضارة منتصرة مُتقدِّمة تنتمي
إليها، وتفتخر بها، وتُعبِّر عنها، وتنتصر لها، وهكذا تستمر في التطوُّر والتقدُّم،
وتظل حضارتك منتصرة. وأنت في رغد من العيش، وحياتك آمنة مزدهرة.
أمَّا
إذا كنت - لا سمح الله - أكثر جهلًا وتخلُّفًا، وفي حال يرثى لها تقف عاجزًا في
ذيل الأمم والحضارات، تقتات على فتاتها ونفاياتها، ولا تُقدِّم لها شيئًا،
وتتسوَّل منتجاتها، وتمسخ نفسك وثقافتها وحضارتها، وتعيش عالة عليها، تابعًا لها،
ذليلًا كسيرًا كسيحًا عاجزًا!
فإنَّ واقعك هذا من التخلُّف الحضاري أيًّا كان
ما تحمل من تاريخ مزهر ومُشرِّف، ومراحل حضارية مُتقدِّمة، إنَّما يجد جذوره
وأصوله فيما أنت منحدر منه ومُتجذِّر فيك من بذور التخلُّف والانهيار، والذي ما لم
تعلمه وتواجهه وتعترف به وتعرف أين الداء وكيف الدواء فأنت في مرحلة الاحتضار،
تقطع مسافات بعيدة من الجهل والتخلُّف رُبَّما لم يَكُن في استطاعتك تعويضها إلى
أن تنتهي حضارتك التي كانت وتنقرض، كما انتهت حضارات أخرى كثيرة ولم يتبقَّ منها
شيء غير بعض من تاريخ، وبقايا من آثار.
وقد تكون قد مررت في التاريخ، عبر التاريخ بكثير
من هذه المراحل، أو هكذا قالوا لك في غير مناسبة، ولكُلِّ مناسبة أسبابها
وسُبَّابها ورُوَّادها!
أغلب
الظن ولأنَّهُم قالوا لك أنَّها سُنَّة الكون، أنَّك تأرجحت ما بين الهبوط والصعود
والتخلُّف والتقدُّم، واختلقوا واختلفوا دائمًا في أسباب ذلك! فإذا كنت قد تقدَّمت
وصنعت هذه الحضارة التي يُحدِّثونك عنها، والتي وصلت حدود أراضيها إلى الصين
والهند والسِّنْد وإلى قلب أوربا، وكانت في أوج قوتها تستطيع حماية حدودها
وأراضيها وتمتد وتزيد، وأنَّها كانت حضارة إنسانية قامت بالإنسان، لكُلِّ الإنسان،
ولم تقتل ولم تُدمِّر ولم تُبِدْ أُمَمًا أخرى ولم تعتدِ، وأزهرت عمارًا أينما
حَلَّت، وأقامت العدل، واجتثَّت الفساد، وتقدَّمت في كُلّ ميادين العلوم والفنون،
وأبدعت وأبرعت في الطب والجبر والكيمياء والفلك والفكر والفلسفة، بينما أوربا
والعالم يتعثّر حينذاك في ظلمات العصور الوسطى، يُعاني الجهل والتخلُّف والسُّلطة
الدينية للكنيسة والتفويض الإلهي للملوك والحُكَّام، بينما كان الحاكم هُنا آنذاك
في حضارتك العربية الإسلامية التي كانت وقتها منتصرة، ينثر الحبوب فوق الجبال
والتلال لئلَّا تجوع الطيور في مجتمع الرفاهية والكفاية والعدل، وقد استمرَّت هذه
الحضارة تُقدِّم أروع النماذج على الإطلاق للحضارة الإنسانية الشاملة قرابة قرنين
أو ثلاثة أو يزيد قليلًا من الزمان حسبما يمكن أن تفسّر وترى.
وإنَّما،
وبعد ذلك، وفي هذه الأثناء الطويلة والآن وبعد كُلّ هذه القرون! فأين هي تلك
الحضارة؟! وهل أنت الآن ما زال يمكنك أن تكون تعبيرًا عنها؟!
وهل
تُمثّل تعبيرًا عنها في قوتها وانتصارها؟ أمْ في هزيمتها وضعفها ومرضها الطويل
الممتد فيك إلى الآن؟!
ما الذي ما زال يتبقَّى منها؟ أيُّ امتداد لها
ما زال يمكن أن يكون مُتمثّلًا فيك، قيم وأخلاق وثقافة وفكر وفلسفة وعلم وتقدُّم
وحضارة؟ وكيف أنَّك موصول بها؟! هل ما زلت موصولًا بعزِّها ومجدها وازدهارها، أمْ
بذُلّها وانكسارها وتخلُّفها وتبعيتها؟!
وهل ما زلت أنت حُرًّا، مبدعًا، مُتطوِّرًا،
خلاَّقًا؟، تعيش حياة هانئة هادئة عادلة سعيدة مستقرة؟ أمْ إنَّك كما بيئتك تُعاني
الفقر والجهل والمرض والتخلُّف، تحت ممارسات التجويع والتركيع والإذلال، مُحاطًا
بكُلِّ صنوف القيود والأغلال، ممنوعًا حتى من الاقتراب من الاحتمال أو جرأة ممارسة
الخيال، غارقًا في مساحات وأجواء لا نهائية من كُلّ صنوف الفوضى والعشوائية
والإلهاء والاشغال؟!
وهل ما زال الحاكم عندك في بلادك يُقيم العدل
وينشر الخير وينثر الحبوب للطيورفوق التلال؟! ويستطيع حماية حدودك وأمنك وأمَّتك وسلامتها
ووحدتها وتقدُّمها ونهوضها وتنميتها، بدلًا من التآمرعلى أجزائها والاقتتال بين
أهلها وانتهاك عِرْضها واغتصاب شرفها والتفريط في أراضيها وتسليم مُقدَّراتها إلى أعدائها
بعد كامل الاستسلام.
كيف
هي حقيقة واقعك الذي تعيش تفاصيله الآن، أوَ لست تعبيرًا عن حضارة مهزومة مسحوقة
حتى الأعماق جوف النخاع، أوَ لست تلهث مختنقًا فقط من أجل لقمة العيش كما أيَّة
سلالة ليست من بني الإنسان، وتسخر من نفسك وعيشك وأهلك وقومك بكُلِّ دونية مقيته، بينما
ما زلت تُردِّد كما الببغاء ما يتردَّد على مسامعك في كُلّ حين، إنَّما أنت صانع
الحضارة ومهدها ومن منتوجها وإبداعها نهل العالم، ولو لم تكن أنت لما كانت هذه
الحضارة الآن!
أين
ذهبت هذه الحضارة وكيف ولماذا سقطت؟ ولماذا لم يمكن الحفاظ عليها؟! ولماذا لا يُمكن
استعادتها أو بناؤها من جديد؟! ولماذا نزداد تخلّفًا بينما يسبقنا الآخرون يتقدَّمون
مع أنَّهُم لايملكون ما نملك من مقومات وثروات وإمكانات وإمكانيات ومن نموذج حضاري
غير مسبوق (في الماضي وفي كتب التاريخ).
فأين أنت؟! و هل يمكن أن تعرف لذلك أسبابًا؟
وأين ومتى يمكن أن تحاول كي تجد الجواب؟!
ومنذ
متى وأنت على هذا الحال من الجهل والتخلُّف؟ ولماذا تطيل تمكث فيه كُلّ هذه القرون
ولا تخرج منه ولا تشعر به ولا تعرف أسبابه؟، وما زلت تتغنَّى بالحضارة التي كانت،
وأنَّك مهد الحضارة ومنتجها وسببها؟! بينما يتقدَّم غيرك من حولك ممتطيًا ظهرك، وتزداد
جهلًا وتخلّفًا وتبجُّحًا! ولا تريد حتى أن تعترف أو تعرف لذلك سببًا، أو أن تواجه
يومًا نفسك!
أين
أنت الآن؟! وقد توقَّف بك الزمن! ولم تَعُد تملك وحدة للقياس، معاييرك بالية،
قياساتك متخلفة، قيمك ممسوخة، لم تَعُد تجد لنفسك مكانًا في المستقبل، فتعفَّنت في
الماضي وتأبى أن تبارحه، وتحت وطأة العجز والهزيمة ومن فرط الدونية تزداد به تمسُّكًا،
وتبحث لذلك عن أسباب ومُبرِّرات وأقاويل وخرافات غيبية، بينما أنت غائب عن الوجود
والتفاعل، وتظن أنَّك تحاول، وفي طريقك تمضي مسرعًا للانحدار والانهيار والاضمحلال
والسقوط والزوال من الوجود، وما زلت لا ترى في ذلك عيبًا! أوَ أكثر من ذلك عجبًا؟!
ليست
هناك حتمية ولا قدرية في الانتصار والاستمرار، ولا يكون ذلك إلَّا بالأخذ بأسبابه مجتمعه،
يحدث أن تمرض الحضارات، فإذا طال مرضها دون استجابة ومواجهة فأنَّها تشيخ وتموت
وتزول من الوجود، وتطويها الهزيمة ويُغلّفها النسيان، حدث هذا وتكرَّر وانهزمت
حضارات أخرى وانسحقت وذبلت وماتت واندثرت، لسنا أوَّل حضارة يمكن أن تنقرض، سبقتنا
كثير من الحضارات لم يَعُد لها وجود، وليست هناك حتمية لبقائنا واستمرارنا إلَّا بقدْر
ما يمكن إن نريد ونستجيب لكُلِّ تلك التحدِّيات الوجودية التي تنذر بطيِّ صفحاتنا
بكُلِّ ما كان فيها وكل ما كانت عليه.
ليس
من باب الحسرة والندم، ولا تجرُّع مرارة الهزيمة من بعد قوة وانتصار، ولا معاناة
الجهل والتخلُّف من بعد حضارة مزدهرة منتصرة، وإنَّما تتداخل العوامل والظواهر
والمظاهر والمؤشرات ذهنية كانت أو نفسية، ثقافية ومعنوية، مادية وواقعية، سياسية
واقتصادية واجتماعية، حياتية يومية تتداخل جميعًا وتعتمل في داخلك، تهزم ذاتك وتهز
كيانك، تجعلك خانعًا قانعًا يائسًا بائسًا كارهًا للحياة، قابلًا للانهيار، مُقبلًا
على الاندحار والاندثار! أليس هذا ما يحدث بل أكثر إن كنت تُبالي؟ أليست هذه
تفاصيل واقعك الواقعية؟ أليست هذه صورة وجودك في كُلّ كيانك وحدودك؟ إلَّا أن تكون
تائهًا أو غائبًا أو لا وعي لك ولا بصيرة ولا تدرك.
الحدود
كُلّ الحدود محل شك ونزاع، بينما هي مصطنعة أصلًا وفي الأساس، فتبقى دائمًا تشعل
الحروب وتؤجِّج الصراع، ونزيدها بجهلنا وتخلّفنا تقسيما وتقزيمًا وتفتيتًا ونستدعي
الحروب والصراعات من التاريخ، ونوقظ العشائر والقبائل والطوائف، ونستغيث
(بالأصدقاء) فنقيم حروب التدمير في كُلّ الأرجاء والأجزاء والمُكوِّنات، ونُمارس
التهجير طوعًا وقسرًا، وننثر الخيام على التخوم، ونحصد ملايين القتلى والمُهجَّرين
والمُشرَّدين، ونثكل النساء، ونُيتِّم الأطفال، ونبقر الحوامل، ونقتل الشيوخ
والعجائز، في مشهد مأساوي عبثي همجي عجيب!
كيف
تفعل أمَّة ذلك بنفسها؟!!!
ثمَّ نجني الحصاد مزيد المزيد من مزيج التجزئة والتخلُّف
والتبعية والاستبداد! ألمْ تشهد ذلك وتشاهد وتعايش كُلَّ يوم؟! ألمْ تُرسل وتبُثّ
المقاطع والمسامع؟! وتُدلي بدَلْوك، وتنازع برأيك، وتتهكم وتسخر، وتهذي وتهزل،
وتجادل وتكابر وتلتفت غير عابئ؟ وعزاؤك أنَّك دائمًا محبط يائس عاجز لا حول لك ولا
يد لك في كُلّ هذا فأنت دائمًا ضحية مآساوية! ضحية المؤامرة، وكُلّ ما هو دون ذاتك،
وكُلّ ما هو خارج سيطرتك وإرادتك، أو أنَّهُ قدر غيبي محتوم، وسوف تكون النهاية
خيرًا!
أرواح
بشر تلك التي تُزهَق كُلَّ لحظة أمام عينيك، وإن لم يكونوا حتى من بني قومك وأمَّتك
ودينك وحضارتك، فهُم من بني الإنسان يا إنسان! مصائر قومك تلك التي تتحطم كُلَّ يوم
أمام صمتك وعجزك! مقدراتك تلك ومقدرات أمتك وثرواتها التي هي ثروتك وتاريخك وآثارك
وثقافتك التي تُنهب كُلَّ حين بعلمك وأمام مرآك ومسمعك، إمكاناتك كُلُّها تلك التي
إن شئت يمكنك أن تبني بها مستقبلك وتستعيد بناء حضارتك، العلماء والنوابغ من بني قومك
يهاجرون أو يُهجَّرون أو يدجنون ويُجنَّدون أو يُغتالون في بيوتهم بين أطفالهم أو
في أيِّ مهجر كان أو منفى، وأنت ومجتمعك والأجيال تعانون الجهل والأمِّية
المتزايدة والمُمنهَجة والمُطّردة، وآلاف بل ملايين الخريجين من المدارس والمعاهد
والجامعات بل وحملة الرسالات والأساتذة بلا معنى ولا قيمة ولا جدوى، بينما الفسدة
والفاشلين والراقصين واللاعبين والجاهلين والمنافقين والأتباع على قمة الهرم الاجتماعي
بكُلِّ إمعان وإذلال لكُلِّ محاولات
الاجتهاد والتقدُّم والنجاح، ومنتهى الإخلال بكُلِّ القيم والمُثُل والمبادئ
والأخلاق والتفسُّخ القيمي والمجتمعي، وانتشار أغرب وأبشع أنواع الجرائم غير المسبوقة
على مجتمعاتنا!
إنَّ
بلادك في كُلّ جزء من أجزائها متخمة بالثروات بلا تنمية، ودون أن يعود عليك شيئًا منها،
إنَّما هي بين أيادي الحُكَّام واللصوص وأبنائهم وأتباعهم وذويهم، غير تلك
المستنزفة والمنهوبة والمُهرَّبة والمُودَعة في بنوك الأعداء وفي خدمة مشروعاتهم
واقتصاداتهم، غير المُهدَرة تحت أرجل الجواري والعاهرات وفي الصالات والمراقص
والحانات والمراهنات على أقدار الأمَّة ومصائر أبنائها، غير المُكدَّسة في مخازن
الأسلحة عَبْرَ دورة واسعة نافذة من تُجَّار وسماسرة الأرواح والأقوات والحروب،
بينما أنت تعاني الحاجة والفاقة، وتكابد ويلات العوز والفقر، وتستنزف حياتك جريًا
وراء لقمة العيش، ودَفْع فواتير الجهل والتخلُّف والمرض والفقر، وتدفع الجباية
راضيًا وساخطًا، وتؤدِّي الفرائض وتُسبِّح بالحمد والشُّكر، وإلَّا فسوف تلقى سوء
العاقبة وبئس المصير، ويمنُّون عليك بالعيش تحت حمايتهم ورعايتهم، ولتتحلى دائمًا بالصبر
وحُسْن الأدب في حضرتهم العُليا، وفي طلعاتهم البهية! ولتعلن أبدًا الدعم والتأييد
لئلَّا تكون من القِلّة المنحرفة أو الشرزمة الضالة، أو أن تكون داعمًا ومُؤيِّدًا
للإرهاب.
لم
تَعُد حضارتك تعرف فارقًا بين عدو وصديق، وأصبح حاميها حراميها في الداخل والخارج،
وبتنا نلجأ لألدِّ أعدائنا لحمايتنا، ونُقيم معهم المناورات والجبهات والأحلاف! وإذ
نزداد تخلّفًا فوق التخلُّف ندفع لعدوِّنا ثرواتنا ليزداد هو في التقدُّم، وكلما
اتسعت الهوَّة وتزايدت لا مناص أن تمتلئ بالهيمنة الكاملة والتبعية الشاملة! فيصبح
عدوُّك هو مصدر غذائك وكسائك ودوائك ومرضك وشفائك وجيشك وعقلك وفكرك وسلاحك وإذلالك
دون كرامتك وكبريائك، وتقتات على فتات حضارته ونفاياته تابعًا ذليلًا لكُلِّ خياراته
وإملاءاته وقرارته ولو في ثوب أنيق!
فأيّ
وجود تراه أو ما زلت تأمله أو يمكن أن يصبح لك بعد أن وصلت إلى هذا الحد؟!
مَن
أنت الآن وهذه هي ملامح صورتك في الواقع؟! وإلى أين تتصوَّر أنَّهُ يمكنك أن تذهب
بعدما يتم استخلاصك وتفريغك ومسخك وما أصبحت تعانيه من دونية وتشوُّهات؟! فتلك
التبعية الكاملة من بعد انبطاح واستسلام لهيمنة شاملة وما تعانيه من يأس وإحباط تنتج
أثرها لا محال في تخريب وتدمير العقول والسلوك والأخلاق والعلاقات، فتشويهه وتفريغ
الذات وملء الفراغ بالّلاجدوى والّلاأمل والإغراق والاستغراق في الهزل والعبث
والملذات والشهوات عَبْرَ كُلِّ وسائل الإعلام والإعتام والإعلان والترغيب
والترهيب في سلسلة متوالية مترابطة لا تتوقف، بينما تُحكمها على نفسك بأحكام وباختيارك
استمرار حُكَّامك! فإذا كان كُلُّ ذلك كذلك مباشرة و في الّلاشعور وبعد كُلِّ هذه
المظاهر خلال فترات طوال من هذا الانحدار
أليست
هذه أُمَّة توشك على الانهيار؟!
أرجوك
لا تُحدِّثنى عن التاريخ، وأنَّهُ كان قد حدث في تاريخنا من قبل رُبَّما ما هو
أكثر من ذلك، ثمَّ عاودنا الكَرَّة واستعدنا أنفسنا واستدعينا تاريخنا وحاولنا
النهوض!
حاولنا
لكنَّنا لم ننهض! بدليل إنَّنا لم نعرف الأسباب! أسباب السقوط أو أسباب النهوض!
بدليل إنَّنا في كُلِّ مَرَّة وبعد كُلِّ محاولة نعاود السقوط! ونجادل ونكابر
ونفاخر دون أن نُدرك حقيقتنا على حقيقتها ونكتشف حقيقة الداء فينا، فنكتشف الأجواء،
ونبتكر الأدواء، ونبدع الشفاء، فنظل على حالنا من مرض عضال يطول، ونظل نحتضر حتى
يودي بنا إلى الضياع والزوال دون أن نواجه أنفسنا بالحقيقة ونعرف لذلك الأسباب!
وأرجوك
أرجوك حين تبحث الأسباب فلا تُحدِّثني عن الاستعمار، كان الاستعمار المباشر حقيقة
تاريخية، وما زال الاستعمار مُستمِرّا بصوره وأشكاله المُتعدِّده، مباشرة أو غير مباشرة،
وهو حقيقة واقعية، فهو دائمًا يحاول الهيمنة ويمارسها تحقيقًا لمصالحه وغاياته ووِفْق
فلسفته ونشأته وتاريخه ومعتقداته، وهو في كُلِّ الأحوال يُحقِّق مصالحه، ويُحقِّق
نجاحاته، وتستمر حضارته وتنتصر، ويفرض ذاته، ويمكنك دائمًا أن تشكوه أو تهجوه! أو
تنزوى مُتخلِّفًا ترجوه وتحمد تقدُّمه وانجازاته!
أمَّا
المُستعمِر فكان له مشروعه، وكانت له أسبابه، وهو يجد مشروعية ذلك في ثقافته
ونشأته وبهذا قامت حضارته ولتسترجع تاريخه كُلّه كما تشاء!
انما تعالى نبحث في ذاتنا عن أنفسنا، ونُقلِّب
صفحات تاريخنا فنمعن قراءتها بعيوننا نحن وعقولنا نحن دونما تبرير أو تأويل، تعالَ
نبحث وندرس تلك القابلية للاستعمار! ونتقصَّ أسباب الهزائم وتقبُّلها والعيش
الطويل في ظِلِّها وذُلِّها وهوأنَّها والتكيُّف والتعايش معها وتقبُّلها! لا
بُدَّ من البحث فينا، في جذورنا ونفوسنا وأسباب تداعي حضارتنا فينا، ليس المطلوب
ولا المقصود أن نحاسب التاريخ بأثر رجعي، وإنَّما البحث عن أسباب ذلك فينا،
رُبَّما في تكويننا ونشأتنا وطريقة تفكيرنا وتعاطينا وتناولنا للأحداث والمُلمَّات،
وإلَّا فلماذا كُلُّ ذلك ما زال مُستمِرّا فينا وفي واقعنا وحاضرنا إلى الآن! كيف
تقبلنا وتجرعنا كُلّ ويلات الاستعمار وصنائعه وزرائعه ولم نستوعب كيف أنَّهُ يسلبنا
تاريخنا وينهب ثرواتنا ويُدمِّر واقعنا ويفشل مستقبلنا ويعدم وجودنا ويسحق حضارتنا!
وكيف ما زلنا نقبل كُلّ ما نحن فيه وعليه من تخلف وجهل وهزيمة وإذلال وانسحاق، وما
زلنا مستعدِّين ومُهيَّئين أن نستقبل ما هو أكثر من ذلك ورُبَّما ننتظره! وسواء
كان ذلك من الداخل أو من الخارج بفعل حُكَّامنا وطغاتنا والاستبداد، أو بفعل قوى
الاستعمار مُباشرًا كان أو غير مباشر! بل وصل الحال بنا أن نُوجِّه له الدعوة، ونُرحِّب
به، وندفع له، ويستقوى بعضنا على بعض به، وبعضنا يتمنَّاه، والبعض الآخر يتحالف
معه، وكُلُّنا يتبعه، ويخطب ودَّه ويحذوه حذو النعل للنعل! أوَليست تبعيتنا
الكاملة الآن لهيمنة حضارة الغرب الشاملة ولكُلِّ نسق حضارته، هي بكامل إرادتنا ومن
صميم وعينا وباختيارنا وقناعاتنا أنَّهُ ليس لنا من دونه بديل؟! أليست تلك هي القابلية
فينا للاستعمار؟!
بل
والأدهى من ذلك والأمَرُّ، ألَسْنا على وعي وعِلم وإدراك واقعي ومعايشة يومية
حياتية بكُلِّ وسائل الاستحمار التي يمارسها الغرب فينا وعلينا؟ فيستحمر حُكَّامنا
فيستحمرونا، ونحن نقبل فنستحمر ونتكيَّف ونتعايش ونجادل ونكابر ونفاخر وننسحق!
أليست
مرحلة الاستحمار هذه كاشفة أنَّهُ لا بُدَّ أن نبحث في ذاتنا عن ذاتنا وعن أسباب ذلك
كُلّه فينا، فإنَّ لم نكن قابلين لذلك، وإن لم تكن عوامل وأسباب ورُبَّما جذور
القبول فينا فلماذا نقبل! ولماذا ما زلنا على استعداد ورُبَّما دائمًا لاستقبال ما
هو أدهى من ذلك وأكثر والتعايش معه والتكيُّف والتقبل؟!
لعلَّها
المؤامرة إذن!
لا مانع،
ليس هناك ما يمنع من مناقشة كُلِّ الأفكار والأسباب والحِجج والمُبرِّرات، ليس
هناك ما يمنع من مناقشة فكرة المؤامرة باعتبارها هي المسؤولة الأولى والسبب
المباشر لكُلِّ ما نحن فيه ولكُلِّ التخلُّف والجهل الذي نعايشه ونعانيه، والذي لا
نعرف له نهاية! فلطالما أنَّ المؤامرة مُستمِرّة وأطرافها المتآمرون يُجدِّدون ويُطوِّرون
ويُبدعون أساليب التآمُر وحنكتها وحبكتها، فإنَّنا نحن أي الطرف المُتآمَر عليه
سيظل على حاله هكذا، ضحية هذه المؤامرة الكونية الّلانهائية، ولا حول ولا قوة
إلَّا بالله!
فهل
ما زالت المؤامرة سِرِّية مَخفِيَّة! أمْ إنَّهُ قد تمَّ اكتشافها من جديد! أمْ
استجدَّت عليها خطط وعناصر جديدة شيطانية جُهنَّمية!
أليست
حقيقة قديمة ثابتة موثقة واضحة مفضوحة منشورة مُعلَنة مُعاشَة مُعاصَرة بيِّنة
صارخة يُصرِّح بها أصحابها على الملأ، ما الجديد في هذا؟! أين الاكتشاف؟!
لعلَّهم
أي المتآمرون هُم الذين درسونا جيِّدًا، درسوا حضارتنا، هُم الذين اكتشفوا أسباب قُوَّتنا،
وعناصر ضعفنا وعيوب شخصيتنا، وخططوا واجتمعوا وانعقدوا وعقدوا العزم على استمرار تخلفنا
وهزيمتنا، والحيلولة دائمًا دون وحدتنا ونهضتنا، وتابعوا في ذلك وأتبعوا... وبنا
ومِنَّا وعلينا دائمًا ينتصرون!
ومؤخَّرًا معروفة تلك الوثيقة منشورة بتوصياتها
منذ العام 1907السنة السابعة بعد التسعمائة بعد الألف في انعقادهم في مؤتمر كامب
بنر مان (إنَّهُم يملكون كُلَّ شيء، كُلَّ عناصر الحضارة والتقدُّم، وفي حضارتهم
وتقدُّمهم كُلُّ الخطر على مصالحنا واستمرار انتصار حضارتنا وامبراطورياتنا، امنعوا
وحدتهم، امنعوا عنهم كُلَّ وسائل التقدُّم والتكنولوجيا الحديثة) ونجحت الخطة،
وتتوالى انتصاراتها بنجاح ساحق منقطع النظير، لم يَعُد يدعو إلى الدهشة!
جمعوا العصابات الصهيونية من شتات العالم، وتمَّ
زرعها واغتصاب واستيطان فلسطين العربية (حيث المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)! كوَرَم
سرطاني استيطاني خبيث في قلب قلب الوطن العربي، يمنع وحدته ويُبقيه دائمًا على
حاله من المرض والعجز والشلل والذُّل والفقر والهزيمة! فكان الكيان الصهيوني
وأسموه (إسرائيل) وتكفَّلوا جميعًا بدعمه وتمويله وحمايته وتسليحه وتقدُّمه كرأس
حربة مُتقدِّمة لحضارتهم، وشوكة دائمة مؤلمة موجعة في خاصرة العرب، تُجهز على ما تبقَّى
من حضارتهم، وتغتصب شرفهم وتذلُّهم، وتُهين عِزَّتهم، وتقضي على البقيَّة الباقية دائمًا
إن وُجِدَت من رجولتهم!
أغلب الظن أنَّهُم لم يعانوا كثيرًا في سبيل
نجاح خطتهم! رُبَّما واجهوا بعض العثرات والمحاولات هُنا أوهناك على مراحل متباعدة!
لكنَّهُم باتوا يحتفلون كُلَّ يوم بنجاح جديد، ويرتفع علمهم فوق سماء عربية جديدة!
وتطأ أقدامهم أراضي رُبَّما لم يتصوَّروا الاقتراب منها! وأصبحوا في وضح النهار لا
يتخفُّون يغتصبون العقول في غير مجال، وتنفتح لهُم أسواق المال، وسِيقان رجالات
الحُكم ورجال الأعمال! ولِمَ لا؟ ونحن نتكفَّل بما يكمل الخطة، ويُنجح أبعاد
وأركان المؤامرة في مختلف جوانبها ونواحيها وعلى كُلِّ الجبهات، وعلى مختلف
الأصعدة، بل ونجتهد ونزيد!
فأيَّة مؤامرة تلك التي نتحدَّث عنها؟! إلَّا إنْ
كان المقصود هو مؤامرة الجاهل على نفسه مُستحكِمًا في البلاهة والغباء، مُمْعِنًا
مُتنعِّمًا بالفشل والهزيمة! غارقًا حتى أذنيه وجوف جمجمته في تخلُّف عجيب غريب بليد
مقيت!!
وإن شئت المزيد من الحزن والألم والخِزْي
بالمكاشفة والمصارحة والبحث عن الحقيقة العارية في خضم هذا الحوار المؤلم، فلعلَّ
الفارق بين ما نحن عليه من تخلُّف حضاري وما هُم عليه من تقدُّم يذهلك، رُبَّما يوازي
الفارق بين تعداد سُكَّاننا نحن العرب وبين تعداد الكيان الصهيوني المزروع والمُغتصِب
لأراضينا وشرفنا وعقولنا! لتتبيَّن كيف أنَّهُ أنجز مُهمَّته، وإنَّما ليس في غفلة
مِنَّا، بل تحت مسامعنا وأبصارنا، وتحت فراشنا وكُلِّ حواسنا، وعلى مرآى ومَسْمَع
من العالم كُلّه في كُلِّ قاراته ونواحيه ونواصيه!
مَرَّة أخرى المؤامرة بالنسبة للمُتآمِر مشروعة،
يُحقِّق بها مصالحه وينتصر بها لاستمرار حضارته، وأرجوك لا تنتظر منه أن يأسف على
ذلك ويتأسَّى عليك ويعود نادمًا، أنت تعرف نشأته وكيف قامت حضارته، وكيف أنَّ الحروب
البينية بين الاثنيات الأوروبية حصدت الملايين من أرواح البشر بكُلِّ قسوة ووحشية
وهمجية، وحين خرجوا على العالم كيف استلبوا الأرض وأبادوا أهلها، وأقاموا حضارتهم
فوق بحور من الدماء، وعَبْرَ قرون من الوحشية والهمجية والغزو والاحتلال والاعتداء!
كانت رحلة تجارية بحثًا عن التوابل، بحثًا عن غاية الربح، وأثناء الدوران حول رأس
الرجاء الصالح، اكتشف كريستوفر كولومبوس تلك الأرض الجديدة في القارة الأمريكية، فهبط
عليها، وتتابعت الموجات من أنحاء أوربا واثنياتها، كانت هناك أُمَّة كاملة أبادوها
واستعمروا أراضيها كاملة ومَثَّلوا بشعبها،وحلَّت مَحلَّها الولايات الأمريكية،
ثمَّ جلبوا عَبْرَ تجارة العبودية والرقيق الملايين من أبناء القارة الأفريقية
واستعبدوهم في مآساة إنسانية مُروِّعة، ليُعمِّروا لهُم أرض الحضارة الجديدة ويقوموا
على خدمتهم، وكان من باكورة إنتاجها للبشرية الحرب العالمية الأولى ثمَّ الثانية
واغتيال ملايين البشر وإزهاق ملايين الأرواح، وحتى وقتنا هذا وعلى أراضينا في فلسطين
وفي سوريا وفي العراق وفي اليمن وفي ليبيا وفي السودان وفي لبنان، وكُلٌّ في طريقه
وفي توقيته، شهدنا ونشهد بأمِّ أعيننا قتل وتشريد وتهجير وإذلال الملايين من أبناء
شعبنا بذرائع مختلفة وبأساليب وطُرُق مُتعدِّدة، نحن دائمًا أطراف فاعلة فيها ومُؤثِّرة!
لكنَّها تبقى بعد كُلِّ ذلك هي الحضارة المُهيمِنة المُنتصِرة، إنَّ حضارة قامت
على غاية ثقافة الرِّبح يُمكنها أن تدمِّر في طريقها كُلَّ شيء، وتُبرِّر لنفسها
أيَّ شيء، على أن تحقِّشق أرباحها دائمًا ولو على أنقاض كُلِّ القيم، ثمَّ مَن ذا
الذي يستطيع أن يحاسِب المُنتصِر على انتصاره، ونحن الحضارة المهزومة المُتخلّفة؟
فمَن الذي يستطيع أن ينتصر لنا؟ ما دُمنا لا ننتصر لأنفسنا، ولا نحاول ونستكمل
المؤامرة فينا بالقصور الذاتي على ما تبقَّى من وجودنا!
أمَّا نحن فمَرَّة أخرى لماذا نستقبل التآمُر
علينا بكُلِّ هذا الترحاب والإعجاب والقبول والتعايش والمشاركة أيضًا؟!
فمَن الذي يفتح حدوده وموانيه ومطاراته وأراضيه
واقتصاده وذراعيه وأحضانه وسيقانه للصهاينة من كُلّ حدبٍ وصَوْب؟! مَن الذي يتاجر
بالسُّحت والفحت والرِّبا بالقدس والأقصى وفلسطين كُلَّ تلك التجارة البائرة؟! مَن
الذي دمَّر العراق وأسقط بغداد؟! مَن الذي يُدمِّر سوريا ويُسقِط دمشق؟! مَن الذي يقتل
اليمن ويغتال ليبيا ويُقسِّم السودان؟! مَن الذي يقمع مصر ويُقزِّمها ويقهر
القاهرة؟! مَن الذي يعيث في الأرض فسادًا ويُؤجِّج الفتنة ويُقلِّب الطوائف
والعشائر والقبائل؟ ويستدعي الماضي ويستقوي بالأعداء في حروب مُتخلِّفة طاحنة؟! مَن
الذي يُهدر الثروات في الهزل والملذَّات والتفاخر والمفاخرة؟! مَن الذي يعكس
الأولويات ويقلبها دون ضابط أو رابط أو رقيب؟! مَن الذي يستدين على حسابنا ليرهن
مستقبلنا ومصيرنا؟! مَن الذي يزجُّ بمعارضيه في السجون والمعتقلات والغياهب؟! مَن
الذي يُدمِّر أجيالنا بالجهل والتعتيم في مدارسنا وعلى أبنائنا؟! مَن الذي يمارس
الجباية والإفقار والتجويع والتركيع على أهالينا وعلى شعبنا؟! مَن الذي يحرس التخلُّف
ويدافع عنه ويزيده ويَحُول بيننا وبين أيَّة محاولة مُمكِنة للنهوض؟!
أوَ ليست هذه هي أمُّ المؤامرات وأكبرها!
أوَ ليست مُتمثِّلة فينا في كُلِّ أطرافنا وفِرقنا
وطوائفنا ومحاولاتنا الفاشلة أو صمتنا وعجزنا، بكُلِّ جوانبها وأبعادها المكتملة؟!
وعلى أيَّة حال، فإنَّهُ لا يُمكن بحال من
الأحوال إنكار حقيقة كُلِّ ويلات الاستعمار في تاريخنا وعلى أراضينا وكلِّ
امتدادات ذلك في حاضرنا، كما لا يُمكن إنكار حقيقة المؤامرة بكُلِّ أبعادها
الشاملة، وتعاطيها مع التفاصيل الشخصية والذهنية والنفسية والتاريخية والجغرافية،
وفي كُلِّ المجالات والنواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بهدف دائم ومُستمِر
أن يجعل من وجودنا وعَبْر مسيرة طويلة ومُستمِرَّة من الألاعيب والخيانات وبالوعود
والترهيب والترغيب هذا المسخ المُشوَّه والوجود المنقوص المعتوه المُعَاق.
إنَّما وكما جرى بيننا الاتفاق على أنَّ الغزو
والاستعمار لا يمكنه أن ينجح إلَّا ضد مجتمع ضعيف قابل لذلك، وأنَّ المؤامرة لا
يمكن أن تؤتي ثمارها وتستمر طوال هذه القرون إلَّا على مجتمع يحمل في أعماقه أسباب
هزيمته وفشله وتخلُّفه.
هذا هو الأمر الذي لا بُدَّ وأن نوليه كُلَّ الاهتمام
والتركيز بكُلِّ شجاعة وصراحة وموضوعية واستعداد لقراءة أعماقنا وما هو مختزن فيها
وما يمكن أن يخرج منها، ذلك أنَّ الإفراط في تناول الأسباب الخارجية وتحميلها دائمًا
كامل المسؤولية دون النظر إلى أسباب التخلُّف الذاتية والتي سهَّلت للاستعمار دوره
ووجوده، فإنَّ إسقاط كُلّ أسباب الأزمة على العالم الخارجى إنَّما هو راحة لأنفسنا
من عناء المواجهة الحقيقية للأسباب الكامنة فينا، مِمَّا لا يضعنا في موضع التصادم
الحاد مع الكثير من المعتقدات والقيم والرواسب السائدة في مجتمعنا، كما أنَّهُ يعفي
الحكومات ويُخفِّف عنها مسؤولياتها أو يُبرِّر عجزها وفشلها وجمودها وتخلُّفها.
لقد تفكَّك مجتمعنا، وبدأت سلسلة اضمحلاله من
داخله قبل أن تهجم عليه الغزوات المختلفة التي أكملت إخضاعه، وانزوت قيم الحرية
والعدل والبحث، ليحلَّ محلَّها قيم الاستبداد والطغيان وإغلاق أبواب الاجتهاد،
والاكتفاء بتفسير الدين بما يوافق رغبات الحُكَّام!
إنَّنا ما
زلنا عند نفس السؤال نحاول البحث عن إجابة واقعية صريحة مباشرة مهما كانت صادمة أو
مؤلمة...
مَن أنت الآن؟ كيف وصلت إلى هُنا؟ مَن الذي أوصلك
إلى ذلك؟! كيف أصبحت على ما أنت عليه الآن؟! وإن لم تدرك بَعْدُ ولم تشعر فتلك هي أمُّ
المصائب! وهذا هو الجهل المُركَّب، حيث لا تدري ولا تدري أنَّك لا تدري، وتظن
أنَّك بخير وتمضي!
التخلُّف مرتبط أساسًا بالبُعْد الزمني، بنوع
وطبيعة العلاقة بين الماضي والحاضر، والمجتمع المُتخلِّف هو ذلك الذي كان قائدًا
أو مُسايِرًا للتقدُّم الحضاري والتطوُّر، ثمَّ لأسباب كامنة فيه أو خارجة عنه لم
يَعُد كذلك، عجز عن الاستمرار، سبقته الحضارة وتجاوزته، وكُلَّما زادت مسافات
التجاوز ازداد تخلُّفًا، والتخلُّف غير التأخُّر، المجتمع المُتأخِّر هو ذلك الذي لم
يكن يومًا في المُقدمة، ذلك تأخَّر أساسًا عن أن يكون، والمُتخلِّف شديد الصِّلة
بالخلف بمعنى الوراء، فالمُتخلِّف هو ذلك الذي ينظر دائمًا ويتطلع للخلف.
ونحن، نحن العرب، نحن الذين نُقدِّم المثل
الأبرز في التخلُّف، كُنَّا يومًا رُوَّاد حضارة زاهية زاهرة منتصرة رائدة، لا شكَّ
في هذا، يقين لا يخالطه شكٌّ عرفته البشرية جيِّدًا ونهلت منه وبَنَتْ عليه وتقدَّمت
معه وتجاوزته، ومرضنا نحن وتوقَّفنا وتخلَّفنا، نجترُّ التاريخ والذكريات، نتحسَّر
على أمجاد الماضي، لا شيء غير هذا، لا بل ما هو أكثر!!
فنحن نُقدِّس الماضي! الماضي عندنا لا ينتهي ولا
نبني عليه! الماضي في ثقافتنا قوة حاضرة أو موازية للحاضر أو هو أقوى! يزاحم
الحاضر وينافس المستقبل ولو استطعنا، وهكذا نعبر ونتمنى لجعلناه يتخذ مكانه
ومكاننا الآن وغدًا وفي كُلِّ حين! والماضي في ثقافتنا ليس مُندمِجًا في الحاضر ومُمتدًّا
فيه ومُتداخلًا يتضمَّنه الحاضر ويتجاوزه ويمضى مُتطوِّرًا مُتعلّمًا مُستفيدًا،
بل هو في ثقافتنا ومفاهيمنا ونظرتنا الَّلاتاريخية قوة مستقلة عنه قائمة بذاتها،
جامدة لا تتغيَّر ولا تتطوَّر، تظل في خلفية رؤوسنا في حالة استدعاء مُستمِرَّة!
إنَّنا نأبى أبدًا أن نضع الماضي في سياقه الفعلى فنتعامل معه من منظور نسبى بوصفه
مرحلة انتهت وتلاشت في مراحل لاحقة تجاوزتها بالتدريج فأوصلتنا للحاضر وهكذا، فالحاضر
يحمل بطبيعته وفي داخله بذور الماضي، ذلك أنَّ الماضي هو الذي خلق الحاضر عن طريق
تجاوزه المُتدرِّج لذاته، أمَّا حين نقطع عن الماضي صلته بالتاريخ (الَّلاتاريخية)
الذي يدور في فَلَكه، فيفقد طابعه النسبي، ويخرج عن الإطار الزمني الذي كان مرتبطًا
به، فيصبح قوة دائمة الحضور، فيتصادم دائمًا ما هو دائم الحضور مع الحاضر الواقعي
الفعلي المُعاش!
ذلك هو الذي يمكن أن يفسِّر ذلك التخبُّط
والاضطراب الثقافي، بل والمسؤولية عن قَدْر التخلُّف الفكري الذي نعايشه ونعانيه
طوال هذه القرون من التخلُّف الحضاري الشامل.
حيث إنَّنا نجعل للماضي نطاقًا يفوق بكثير نطاقه
الحقيقي، أي نطاقه التاريخي، ويختلف كلية عن مجال عمله في ظروفه ومساحته وزمنه،
حيث يقع على مسامعك دائمًا : إنَّ سبب التخلُّف هو عدم التزامنا التراث أو الدين وهو
ابتعادنا عنه في الحاضر الآن، وأنَّ طريق التقدُّم الحقيقي وحَلَّ كُلِّ المشكلات
هو بالرجوع إلى ما كُنَّا عليه بشكل أو بآخر! وهو خروج في حَدِّ ذاته لهذا التراث
الذي نتغنَّى به عن إطاره التاريخي، وإضفاء نوع من الصحة المطلقة التي تسري على
كُلّ زمان، فهذه النظرة الَّلاتاريخية إلى الماضي ومحاولة قراءة الحاضر والتطوُّرات
التالية بين سطوره، فذلك من أوضح مظاهر التخلُّف، حيث نرفض النظر إلى عصرنا من
خلال منطقه الخاص، ونُفكِّر فيه بمنطق عصر أصبح في ذِمَّة التاريخ، مهما كان المجد
الذي كان يتصف به وقتذاك، وهو خطأ في حق التراث ذاته بإنكار السياق التاريخي الذي ظهر
فيه وإقحامه ودائمًا وإلباسه في غير سياقه، علاوة على أنَّ مقارنة تخلُّفنا بتقدُّم
غيرنا وإرجاع السبب إلى إنكار تراثنا هو وكأنَّهُ إثبات لغيرنا، وكأنَّ الشكل
الوحيد للتقدُّم هو ما هو عليه هناك! وتصوير الماضي كما لو أنَّهُ قوة حيَّة قادرة
على حَلِّ جميع مشكلات الحاضر، لدرجة تبرير أيَّة هزيمة عسكرية مثلًا قد تلحق بنا
بأنَّ سببها أو ارتباطها بصورة أو بأخرى بموقفنا من التراث! فتجاهُل جذورنا وابتعادنا
عن الدين كذلك هو سببب الهزيمة، والفضل يرجع في انتصارنا إذا انتصرنا، إنَّنا إذ زدنا
اقترابًا من هذه الجذور، فتبيَّنت لنا فداحة الأضرار التي تسبَّب عنها ابتعادنا عن
الماضي! وهكذا يخرج التراث خروجًا تامًّا وكاملًا عن مُهمَّته الأصلية ووظيفته المنطقية
التي لا يمكن ولا يصح أن يتعدَّاها، ويصبح الماضي دائمًا هو مرجعية التقييم
والتحليل والتسبيب، وهو القادر دائمًا وحده على تخليصنا من مشاكل الحاضر وتجاوز
تحدياته وصعوباته، ويظل الفكر مُتخلِّفًا ينظر إلى الخلف، وتصبح المواجهة المباشرة
للحاضر أمْرًا لا يمكن أن يتحقق في ظل هكذا نظرة ماضوية تراجعية لا تاريخية، وطريقة
تفكير ماضوية سلفية لا يبارح العقل فيها مكانه القديم.
فما هى العِلَّة الحقيقية لهذا التطلُّع المُستمِرّ
إلى الخلف الذي يعني ويرتبط فكريًّا بالتخلُّف؟
أليس الانقطاع الحضاري هو الاشكالية الأكبر والسِّمة
الأبرز التي تُميِّز تراثنا الفكري والعلمي وتؤدِّي إلى تلكما النظرتين
المتناقضتين : فأمَّا إهمال التراث كاملًا لما فيه من أنَّهُ حافل بالعناصر الَّلاعقلية،
والخرافية وبأنَّهُ يحتشد بالغيبيات وبالأفكار الأسطورية، وإمَّا استعادته كاملًا وهو
سبيل حَلِّ كُلِّ مشكلاتنا! وكلتا النظرتين تتخذان مواقف غير سليمة، وتتوقعان من
التراث ما لا يمكنه القيام به، أو يحملون عليه لأسباب لم تكُن الوحيدة أو الصحيحة،
بينما القضية أنَّ ماضينا وحاضرنا لا يكونان خطًّا مُتَّصِلًا، وأنَّ هذا الانقطاع
الحضاري هو الذي يؤدِّي إلى تشويه النظرة للماضي والحاضر على السواء، فالنظرة إلى التراث
والتي يمكن أن تؤدِّي إلى تقدُّم فكري، يحيا فيها التراث من خلال موته حيث يكون
بذلك مُتَّصِلًا لا يطرأ عليه انقطاع، فكُلُّ مرحلة قديمة تُمهِّد الطريق لمرحلة
جديدة تُستكمل وتعلو على سابقتها، تستوعبها في ذاتها ولكن مع تجاوزها بعد
استيعابها وفرزها، فالتراث هُنا غذاء لجسم حَيّ تنمو به المعرفة والثقافة عن طريق
امتصاص هذا الغذاء ومن ثمَّ اهتضامه وتلاشيه، ولكنَّهُ في ذات الوقت يحيا ويستمر مُتطوِّرًا
داخل هذا الجسم، أمَّا حين تتم محاولة الإحياء دون إدراك لمقتضيات العصر الجديد
الذي طرأ بعد الانقطاع الطويل، فإنَّ هذا الإحياء ذاته موت للتراث، لأنَّهُ يُبعث
من جديد في غير وقته، ويزرع كقلب غريب في غير جسم العصر فلا بُدَّ أن يرفضه.
فالإحياء الحقيقي هو إذن تجاوزه باعتباره سُلَّمًا
لمزيد من التقدُّم والصعود، أمَّا إحياؤه بالاسترجاع فهو في حقيقته قضاء عليه يحول
دون استثماره وإنفاقه ليعود علينا بالخير، فحين يتم اختزان هذه الثروة أطول مِمَّا
ينبغى تفقد صلاحيتها، حيث لم تَعُد متداولة وغير قابلة للاستفادة منها.
لعلَّ الذين انتفعوا حقًّا من هذا التراث كانوا
هُم في الحضارة الأوربية، الذين استفادوا جيِّدًا، من جهود العرب وتقدُّمهم آنذاك
في الميادين الفلسفبة والفكرية والعلمية وامتصُّوها في جسم المعرفة وبيَّئوها فكان
نموًّا هائلًا استمر مذ حينها بلا انقطاع، فالحضارة الأوربية هي التي حفظت هذا
التراث عن طريق تجاوزه وتفنيده وتصحيحه، فضمنت له من خلال موته حياة مُستمِرّة.
وهكذا ينتج الاغتراب والتمزُّق والتشوُّه،
ويستمر كُلّ ذلك كمصدر رئيس وأساسي من مصادر التخلُّف الذي نعيشه، يُعبِّر عن حالة
من العجز عن مواجهة العصر والعجز عن تناسيه أو تجاوزه، فهذا الاغتراب المزدوج الذي
يعانيه العقل العربي والذي فرضه على نفسه بنفسه، يجعله حيث هو قابع عاجز في مكانه بينما
العالم من حوله يجرى بسرعة مذهلة محتلًا في كُلّ يوم المزيد من المواقع، فإمَّا
اغتراب جغرافي عن المكان، فبينما يعيشون أوطانهم يتعلقون بالفكر الغربى، وإمَّا اغتراب
تاريخى عن الزمان بالتعلُّق بعصور وأزمنة لا نعيش فيها الآن، وتفصلنا عنها أبعاد
زمنية كبيرة. فالواقع والحاضر يفرض نفسه عليك دائمًا مهما حاولت الفرار منه أو
الابتعاد عنه، إنَّهُ حولك أينما ذهبت، فهذا الشعور الطاغي دائمًا بخطأ كُلِّ ما
هو قائم وواقع في الحاضر، وإنَّ كُلّ ما مضى كان جميلًا وعظيمًا وإنَّما لا يمكنه
أن يعود، ذلك أنَّك تعيش الآن هذا الزمن وهذا العصر بينما أنت عالق متعلق في زمن
آخر وعصر آخر رُبَّما كان كاملًا متكاملًا لكنَّهُ لم يَعُد موجودًا هُنا الآن كي تعيشه
حيث لا يمكن ذلك، كما لا يمكن ولم يحدث في أيِّ تاريخ استعادته، فإذ تبحث عن
الانتماء وتُفتِّش الجذور العميقة تزداد اغترابًا وتتسع الفجوة بين كُلِّ جيل عن
الأجيال السابقة، ذلك أنَّ هذا العصر تزداد فيه المسافات الزمنية اتساعًا وتضيق
فيه المسافات المكانية كثيرًا، فإنَّ إنكار التراث كاملًا اغتراب كامل، كما إنَّ التمسُّك
به كاملًا ومُقدَّسًا اغتراب وخروج من سياق الزمن، إنَّما هذا وذاك قصور وعجز في التفكير،
وعدم إدراك لانقطاع حضاري طويل إذا أمكننا وأحسنَّا التعامل معه يمكننا إدراك
الكثير.
فهل يمكن وقف هذه المنافسة العبثية بين الماضي
والحاضر انتصارًا للمستقبل في رؤوسنا وطريقة تفكيرنا وتعاطينا مع مشكلاتنا؟!
فالحاضر يضمُّ الماضي بداخله ويتفوَّق عليه تفوُّق الأجيال الجديدة على السابقة من
غير منافسة، حيث لا معنى لوجودها إلَّا أنَّها تشغل هذا القدر الهائل من خلافاتنا
وصراعاتنا وتعوق استيعابنا للماضي أو تطلعنا ورؤانا للمستقبل على حَدٍّ سواء، وتُبقينا
على حالنا من التخلُّف نقطع مسافات هائلة قد لا تُمكِّنُنا من إمكانية العودة منها
واللحاق بالمستقبل.
والسؤال الذي سوف تُحدّد إجابته مَن يمكنك أن تكون؟،
لا بُدَّ أن يسبقه سؤال أهم وهو: مَن هو الذي أنت عليه الآن؟ وكيف وما الذي أوصلك
إلى هذا الحال؟!
قبل أن نكون، وقبل أن نصل إلى جذور ما نحن عليه
الآن من تخلُّف، لقد كُنَّا قد وصلنا لذروة الحضارة والتقدُّم هناك آنذاك قبل أكثر
من عشرة قرون أو يزيد.
قرابة قرن من الزمان، خلال أقل من مائة عام،
ومنذ فتح مكة في العام ستمائة وثلاثين من الميلاد، كانت قد قامت هناك دولة جديدة
على أرض العرب مؤذنة بقيام حضارة جديدة، وحتى العام سبعمائة وأحد عشر من الميلاد
كانت قد امتدت هذه الحضارة وتمدَّدت حدود هذه الدولة من نهر السند شرقًا حتى
أسبانيا والمحيط الأطلسي غربًا، ومن بحر العرب جنوبًا إلى حدود القسطنطينية
وآرمينيا وجورجيا شمالًا، كانت قد استوعبت هذه الدولة الجديدة، صحيح هذا الدين
الجديد وتشرَّبت قيمه ومبادئه وأسسه وأخلاقه، فاهتدت إلى سبيل سعادتها ووعيها بحياتها
فكانت أخلاقها وحيث أدركت غاية وجود الإنسان ورسالته فكانت حضارتها الإنسانية
الشاملة دينًا وتشريعًا، قيم وأخلاق، لغة وثقافة، فكر وفلسفة، علم وتقدُّم ورفعة،
حضارة صنعها ذلك الإنسان الذي كان هُنا وتفاعل بها ومعها مع كُلّ الإنسانية أخذًا
وعطاءً وتفاعلًا ونماءً.
والحضارات لا تنهزم ولا تنتهي هكذا فجأة أو في معركة
فاصلة، ومن بين أسس الحضارة وتكوينها استمرار التنبُّه لذاتها وإذكاء عناصر تقدمها
وتطورها واليقظة الدائمة في التعامل مع أعدائها أو عناصر الضعف فيها ومكامن
الخطورة على استمرارها، استمرت هذه الحضارة واستمر نتاجها ومنتوجها وعطاؤها
وتفاعلها مزدهرًا ومُستمِرًّا، وكان من ضمن تجلياتها ما كان ذلك في الميدان الثقافي
العربي وظل ممتدًّا طيلة ثلاثة قرون أخرى أو يزيد، فالأمم لا تتغير أفكارها هكذا
بين عشية وضحاها حيث يستمر إلى حين، ذلك التراث من العادات الفكرية والطرائق يعشش
ويكون مع القيم الاجتماعية وطرق الإنتاج ومبادىء السياسة والحكم، وحدة كاملة ومنظومة
حضارية متكاملة، ولقد شهدت الفترة ما بين مطالع القرن الثاني الهجري وأواخر القرن
الثالث، ما بين أواخر العصر الأموي ومطالع العصر العباسي الثاني ازدهارًا في العطاء
الفكري غير مسبوق أخذًا وعطاءً، ظللنا نقتطف من ثماره لما يقرب من قرنين رُبَّما إلى
أن كان الذبول البطيء متهاديًا في أفول عَبْرَ القرون، هنالك تعرَّبت علوم الأوائل
وأصبحت قطعة من الثقافة العربية الإسلامية، حيث كانت قد أخذت أقصى أبعادها في الفلسفة
والطب والفلك والكيمياء، واستمرت الحضارة وإنَّما توقف ذلك الجانب الإبداعى الخلّاق
في الفكر والعلم والثقافة، ولم نضف شيئًا من ذلك بعد في القرون التالية، فكان إغلاق
أبواب الاجتهاد في الفقه، واقتصار الحديث على التلقين والترداد الحرفي، والقرآن
على القراءات والتفسير، وقيَّد كُلٌّ نفسه بمن سبقه بترديد المآثر، فلم نعد نضيف شيئًا
ولا نقدم أحدًا غير ذيول وأتباع، فلم نقدم من بعد الأصمعي وأبي عبيدة في اللغة أحدًا،
ولا في التاريخ من بعد الطبري، ووقعت الفلسفة أسيرة منطق أرسطو وحوارية سقراط بعد
سحقها في محاولة التوفيق بين العقل والدين، وبين المعقول والمنقول، وأصبح لبطليموس
القول الفصل في الفلك رغم ما ثبت من كذب ونقض، وضاعت الإنجازات التي قدَّمها العرب
في علوم الفيزياء والفلك والرياضيات والنبات والطب بعد طمسها بالإهمال والتقليد
والتكرار والتلقين، إلى أن جاءت العصور البويهية ثمَّ السلجوقية ومن بعدها المملوكية
المغولية ثمَّ العثمانية على إيقاع ثابت لا يتغير بين الترداد والتكرار، حيث لم
يَعُد العقل أداة تحليل ونقد وخلق، وإنَّما وسيلة لتوطيد الواقع وتجذيره بدلًا من
نقده وتجاوزه لما وراءه، ولن تجد بعد القرن الخامس خلق علمي ما أو إنتاج إبداعى
جديد، ولم تعد الجهود الفكرية سوى جمع وتلخيص أو شرح وتذييل، ولم يُستثنَ من ذلك
أحد من علماء الفلك والرياضة أو أصحاب الفلسفة أو كيمائيين أو نحويين أو شعراء أو
حُفّاظ لغويين، لقد باتت المهمة هي حفظ سيرة رجال العلم بدلًا من تطوير العلم
والبحث والتقدُّم فيه، ومرَّت هكذا القرون التالية حتى أصابنا هذا العُقم الذي نعانيه.
بالغيبية وغلبة قيم التسليم على مادونها من قيم
دينية أخرى، انتقل الفكر السببي التعليلي من الأرض إلى السماء، وبدلًا من التفكير
في الشيء أصبح التفكير في ما وراء الشيء أقرب وأسهل وإبراز الجانب القدري في كُلّ الفاعليات
الحياتية عل حساب الإنسان، وانحط الفكر الماورائي باسم التُّقى وعُمق الإيمان
ليقبل بتعطل قانون الطبيعة بالكرامات والأولياء والمعجزات، وانتشرت أعمال السحر
والتمائم والتعاويذ فلا عقل يرفض، ولا منطق يقف ويدين، وانسحب هذا على تقبُّل
الأساطير والتي انسحبت بدورها على المواقف السياسية والاجتماعية وعلى ألوان الظلم
المختلفة والمنتشرة، فإمَّا تقبلها وإمَّا انتظار المُخلّص المنقذ المُنتظَر، أو
قدرة منتقمة فوقية غيبية! واقتصرت العقول على التلقين والترديد حيث التسليم الكامل
للسابقين بالأفضلية المطلقة وسيطرة الموتى على الأحياء، لأنَّ ذلك العصر الذي مضى
هو أحسن العصور، وأنَّ أخلاقية سابقة هي أفضل الأخلاق، وأنَّ الفكر الذي مضى هو
أروع فِكر، وتلحظ دائمًا أنَّ هذه العقلية السلفية هي من بديهيات رفض التجاوز
والاقتصار دائمًا على التكرار والترديد والتقزُّم الفكري المطرد والمتوالي والمتمادي،
لقد كان ذلك كُلّه نتاج لما آلت إليه الأوضاع الفكرية العامة التي آمنت بدونية الأحياء
وتفوُّق السلف التفوُّق النهائي المطلق، فعِصمة الإمام وعلمه بالعلم كُلّه وضرورة
أخذ هذا العلم عنه أوجدت خطًّا فكريًّا ومن ثمَّ تعليميًّا، ومنذ أن أنشأ
الفاطميون الأزهر، ثمَّ تنبَّه السلاجقة لذلك فماثلوه إلى إن ظهرت سلسلة المدارس
النظامية لتخريج علماء رسميين تولُّوا من بعدها الوظائف الدينية والمدنية في الدول
الإسلامية، وكانوا جميعًا يصاغون ضمن هذا القالب بتدريس التلقين والتكرار، الأمر
الذي انتهى إلى ذات المواقع دائمًا من المحافظة والتلقين والوقوف عند النص المسطور
وما رواه الشيخ السابق لتلميذه اللاحق. هذا التقديس للماضي برغم معطيات التغير
الملموسة ومعايشة حتى العلماء لها ومعها، مع اعتبارهم دائمًا أنَّها ابتعاد نحو
الأسوأ عن العصر المثالي الذي يجب أن يعاش دائمًا لصلاحيته لكُلِّ مكان وزمان،
مِمَّا أضفى صفة الاطلاق على هذا العصر المُقدَّس وبالتالي تسطيح النظرة الفكرية وإلغاء عنصر الزمن،
مِمَّا جعل هذا العصر حيًّا أكثر من الواقع الحَيّ المُعاش برغم ابتعاده الكامل
عنه وصار ضاغطًا عليه كقالب أسمى تدخل العصور التالية في إطاره دون معاناة
المواجهة وابتكار وإبداع الحلول ولكن بالتقليد المتكرر الساكن! وبالتوالي والتمادي
فإنَّ النظرة إلى التسليم القدري على اعتبارها تُقي وإيمان وصلت في العصور التالية
الأكثر تخلّفًا ومنذ السلجوقي حتى المملوكي والعثماني إلى أن يكون التمسُّك بذلك
العصر المثالي الماضي المُقدَّس نوع من التعويض والتغطية على المفاسد والانحطاط
والعقم الفكري والثقافي والحضاري. ويصبح طبيعيًّا أن يظهر الإرهاب الفكري لفرض
الخنوع العام كصورة أخرى مكملة للاستبداد السياسي والضغط الاجتماعي والكبت الجنسي كمنظومة تهدف دائمًا للإخضاع ووأد
أيَّة محاولة تمرُّد على النظام الحياتي للواقع العام، ولم يكُن حرق مؤلفات ابن
رشد أمام الناس هو المثال الأوحد ولا الأبرز ولا الأبشع، فهناك مَن نبش من قبره
مرتين للتمثيل بجثته، فإنَّهُ الرعب الذي تبثه تلك النظرة للماضي الثابت الساكن
المُقدَّس في أيَّة رغبة في التفكير أو التغيير. وحيث تحوَّل العلم إلى مؤسسة
حكومية رسمية وموارد عمل وخبز ورزق يبيعه الحُكَّام للبقاء مخلدين في السلطة
لتحقيق مصالحهم باستغلال وإفقار الشعب فلم يَعُد للخريجين والعلماء دور في الريادة
والخلق الفكري والإبداع ويقتصر دورهم على مهمة الحراسة الفكرية والتبرير للطبقات
الحاكمة!
فهل قد وصلت حضارة أمَّتِنا لحالة من الشيخوخة ميئوس
من شفائها؟ أمْ إنَّهُ لسبب أو لآخر ترانا دائمًا نفقد البوصلة فنضيع أو يضيع
مِنَّا الطريق؟!
أمْ إنَّهُ يغلب علينا من ماضينا وتاريخنا قرُبَ
أمْ بَعُدَ، ما في تكويننا من أمراض دائمًا ما تقعدنا وتفشل محاولاتنا، فإنَّهُ ما
لم نفحصها ونُدقِّق تشيخصها ونبدع أدوائها، فلن نستطيع أبدًا أن نمضي في بناء
حاضرنا واستعادة أو استكمال الحضارة التي فاتتنا، ولن نتمكن كذلك من التفاعل
واللحاق بالحضارة التي تجاوزتنا.
وكلما اجتهدت في تمحيص هذه الأمراض وتتبع جذور
هذا التخلُّف الذي طال بنا، فتظل تبحث إلى أن تصل لأعماق التاريخ، ولسوف تأخذك
مراحله ما بين نفي وتناقض وتواصل، يسلم بعضها بعضًا، لتصل بك دائمًا إلى ذات
النتيجة، فكما أنَّ حاضرنا هو ركيزة الغد فهو في ذات الوقت يُمثّل في ذاته حصيلة
تلك البقايا الحية والرواسب الميتة سلبًا وإيجابا عَبْرَ ماضٍ طويل نجرُّه وراءنا
في كُلِّ حين وعَبْرَ كُلِّ المحطات، وما دون ذلك نكون في عمى عن إدراك أبعاد
الواقع وحقائقه في المكان والزمان والحضارة والإنسان.
ويبقى التاريخ
هو الوسيلة لكشف الجوانب العميقة في حاضرنا الآن، خاصة تلك العناصر التي يمكن أن تمثّل
جذور التخلُّف، طالما إنَّنا نحاول ذلك من خلال فهمنا وهدفنا ومنظورنا للمستقبل،
مع الملاحظة دائمًا أنَّها عناصر نسبية ومتفاوته من حيث الزمان والمكان والقدر،
فتاريخيتها لا تعنى أبدًا قِدَمها أو موتها، وإنَّما يظل وجودها ضِمْن المعطيات
الموروثة، تدافع عن نفسها ويمكن أن تهاجم بالجهل والتقليد والأمثال والاعتياد الاجتماعي
والقوالب الفكرية الجاهزة الجامدة وتقديس الموروث كُلّ الموروث صلح أم فسد!
واحترام قيمه كُلّ قيمه ساءت أم حسنت!
كما إنَّ هذه العناصر متشابكة متقاطعة نتيجة
عوامل ظروفها التاريخية المتعددة في مختلف المجالات والاتجاهات، عملت حينذاك كوحدة
متكاملة أنتجت هذه المظاهر والظواهر والتي قد نهيِّئ لها مناخ وجودها واستمرارها.
فبينما نتغنَّى دائمًا بتاريخنا وأمجاده فإنَّ نظرتنا
ذاتها للتاريخ والتي كثيرًا ما تصل إلى حَدِّ التقديس، يتوقف فيها عنصر الزمن عن
الحركة، حيث إنَّ التاريخ كُلّ التاريخ بمعنى الماضي يُمثّل عندنا وحدة واحدة
جامدة ثابتة لا اعتبار فيها للزمن ولا المراحل، وعندئذ فإنَّهُ بدلًا من أن يكون
دافعًا للتطور والبناء من حيث الانتهاء، ترانا لا ننظر إليه إلَّا بضرورة استعادته
كاملًا! وكأنَّ الزمن قد توقَّف عنده، والحياة انتهت عند حدوده ولا يمكن أن تستمر
دون استعادته كاملًا دون تمييز! حيث إنَّ ارتباطنا به بشكل رومانسي عاطفي نسد به عُقدنا
ونقصنا، فنريد إلباسه الواقع جبرًا سواء ناسَبَه أو لم يناسبه على مقياس ثابت! وبالتالي لا نراه كنقاط انطلاق وإنَّما كحدود انتهاء، لا
يمكن معه أو منه إلَّا النسخ فقط! ولا نرى أيَّة إمكانية للمستقبل إلَّا بإسقاط الماضي
عليه كاملًا!
وعلَّنا نلاحظ هكذا دائمًا أنَّهُ لم تجرِ
محاولة ولا تطرح قضية إلَّا ويقفز الماضي عليها قاطعًا الطريق! وأيًّا كان ما نُسمِّيه
ماضيًا أو تاريخًا أو تراثًا أو سلفًا وأحيانًا نقصد بذلك الدين، دلالة ذهنية
واحدة! فالجانب التراثي في الذات العربية يطغى في معظم الأحيان على الحاضر، ومن
ثمَّ على المستقبل، فتجدنا دائمًا ما نستدعي الأحداث والأشخاص كما هي كُلَّما
حاولنا شيئًا !
الأمر مرتبط عندنا كما الأمم أمثالنا بتاريخية
التكوين، لكنَّهُ يُمثّل لدينا ضغطًا هائلًا على الشخصية العربية يصل إلى حَدِّ
التقديس والتحريم، وذلك لاعتياد الحياة دومًا مع التاريخ بحياة اجتماعية شديدة
التماسك مع الماضي، حيث يندمج الحاضر مع الماضي اندماجًا كاملًا لا يُقسَّم فيه
الزمن إلى وحدات أو يُمثّل بعضه إلى بعض امتدادًا وإنَّما هو حضور مُستمِرّ بوحده
زمنية واحدة ساكنة! وهو على هذا لا يمكن أن يُمثّل داعمًا أو دافعًا، ولا يكون
إلَّا مهربًا من مشكلات وتحديات الواقع وراحة من عناء البحث والاجتهاد!
فتجد أنَّهُ لا يمكنك أن تبحث عن الثورات أو
تتناول التغيير أو تسعى للمستقبل والتخطيط ومواجهة المشكلات وإبداع الحلول إلَّا ويقفز
(التراث أو الماضي أو التاريخ) منتفضًا يوقف أيَّ حوار ويصبح الحوار حوله أو عنه،
ويصبح هو في ذاته هو كُلُّ القضية ويستدعي كُلَّ الجهود!
ومِمَّا
يزيد من صعوبة الأمر ويجعل منه اشكالية مستعصية حيث وكأنَّها تُمثّل جزءًا من
التكوين، جانب من الهوية، حين نُغلّفه بالمعاني الدينية خاصة ما يرتبط ويستمر في العقلية
العربية بذلك التوجُّه الغيبي الميتافيزيقي من حيث لا يرى في الدين ولا ينشر منه
إلَّا ما يختار ويؤول من قيم استسلامية بشعارات الطاعة والقناعة والفناء وعجز الإنسان
وسيطرة القدر والمكتوب! حيث لا يتم الالتفات والانتباه للمعاني والقيم الإيجابية
السامية كمبادئ العمل والمسؤولية والحرية والتعاون والعدل وطلب العلم والتقدُّم
والاستخلاف والإعمار! ومَرَدُّ ذلك أن تلك النظرة السكونية السلبية الجامدة
للتاريخ تغلب القدرية وتعوق القيم الإيجابية الحركية للتغيير والبحث دائمًا عن
الأفضل في المستقبل،لأنَّ ذلك إنَّما يتطلب التصدِّي لبنائه بإيجابية واعتبار قدرة
الإنسان ومسؤوليته المباشرة عن خياراته وقراراته في حياته ورسالته.
وتتجلى امتدادات التاريخ وآثارها في الإنسان العربي،
وترى كيف يتغلغل تراث الماضي في الحياة العربية سلبًا وإيجابًا في الاستمرار الاجتماعي
للحياة العربية وما يحكمه من عناصر تُشكّل معًا التركيب العربي القائم، وما هو المُعوِّق
منها للتقدُّم.
فمنذ ما يزيد عن عشرة قرون أو أكثر استمرَّت
قصة النظام السياسي في مختلف بلاد العرب عبارة عن تحالف مصلحي قائم بين ثلاثة
أطراف تخضع لهُم الرعية على الدوام! الطبقة العسكرية وكانت دائمًا غريبة في أصولها،
ولها السلطة والحكم والرئاسة، وطبقة محلية من الإقطاعيين والتجار، وطبقة ثالثة
تعيش بينهما من رجال العلم الديني آنذاك وهم تلك المجموعة من القضاة وخطباء
المساجد والمفتين والتي كانت وظيفتهم إفراز وإبراز القيم والأفكار التي تُخدِّر
الرعية من جهة، وتُبرِّر حياة الطبقة الحاكمة وطبقة التجار والإقطاعيين من جهة
أخرى، وتنشر أفكار القناعة والتسليم والرِّضا بالمقسوم وطاعة أولي الأمر، ورفع
الدرجات والرزق بغير حساب! ويعز مَن يشاء ويذل مَن يشاء، وهكذا دون الاقتراب من
غير ذلك من أحكام الدين ونواهيه اللهم إلَّا ما لم يكُن له مساس بطرفي التحالف
الآخرين! وكذلك تسريب الأمثال الشعبية في نفس السياق "واللي يتجوز أمِّي أقول
له يا عمِّي! والمساواة في الظلم عدل! والإيد اللي ما تقدرش عليها بوسها وادعي
عليها بالكسر"! وهكذا....
وحيث تلازم السيف والسياسة فأيًّا ما كانوا
أتراك وبويهيين وسلاجقة وأتابكة وأيوبيين، ثمَّ مماليك ومغول وتركمان وصفويين،
ثمَّ ما يزيد عن أربعة قرون تحت الخلافة العثمانية، فإنَّ هذه الطبقات العسكرية
ظلت لها الرئاسة لأكثر من عشرة قرون ويزيد، حيث كانت دومًا لقواد الجيش وكان طريق
الجند هو أقرب الطرق إلى السلطة حتى ومع تحولها لوراثة أسرية كما في العهد
العثمانى ظلت كذلك على ما هي عليه عسكرية دائمًا!
أمَّا الطبقة الأخرى فكانت تجد في تحالفها مع
الطبقة الحاكمة سلاح حماية لمصالحها في الإقطاع الزراعي أو الرعوي وحماية التجارة
والأموال والعقار، حتى وإن تم نهبهم أحيانًا من قِبَل الحُكَّام فإنَّ في التحالف
معهم والخضوع لهم ضمان ما هي عليه أحوالهم، كما إنَّ الحصول على الأمن والحماية
تعويض عن ترك السلطة لهم!
ولبقاء هؤلاء الحُكَّام كان لا بُدَّ من
الاستبداد والسلطة المطلقة والقهر بالقوة، وإن كان الحُكم يحمل الصفة الإسلامية
اسمًا، فلقد كان فرديًّا منقطع الصلة بمبادئ الإسلام في الحُكم والشورى والعدل.
وكانت العلاقات صعودًا وهبوطًا بالرشوة والنفاق من جهة، وبالاستعباد والابتزاز على
الجهة الأخرى.
وعلى أثر ذلك كُلّه فإنَّ علاقة الشعب المحكوم
مع الطبقات الحاكمة كانت علاقة انفصام وابتعاد، نوع من القطيعة الكارهة والحذرة، تُدبِّر
نفسها بنفسها في مواجهة الإهمال والنهب والاحتقار، ودائمًا ما استقرت مشاعر الناس
على الشعور بالخوف والعجز والخنوع والهرب أمام أيَّة مسؤولية، وعدم التعاون مع
الطبقة الحاكمة بأيَّة صورة كانت، بل وتحليل سرقتها (مال الميري حلال) وعدم دفع
الضرائب إلَّا كرهًا، وعدم التبليغ عن المجرمين المطلوبين وعيبية ذلك، وكثير من
مظاهر القطيعة الكارهة وعدم التعاون مع النظام.
وعَبْرَ مسيرة مُستمِرّة لأكثر من عشرة آلاف سنة
ويزيد، كان طبيعيًّا زوال مشاعر الانتماء والترابط القومي والولاء، بل وتحولها إلى
مشاعر أنانية انكماشية ذاتية، وتحل الولاءات المحلية والقبلية والعشائرية
والمذهبية والطائفية ونمو الوجاهات الفردية محل الترابط القوي مع الدولة القوية
طالما لا تُوفِّر هذه الدولة العدل والأمن والحماية، بديلًا وعاصمًا من السلطة
الباطشة الظالمة دفاعًا عن النفس في محاولة للنجاة في غياب القانون ومبادئ العدل
والدين، حيث تحل الوساطات والخواطر والمحسوبيات والمصالح!
ويستمر الحال على نفس المنوال بعدما تمكَّن
الاستعمار الحديث من إسقاط واقتطاع بلاد العرب قطعة بعد الأخرى، حيث استغل
الاستعمار الأوضاع القائمة على ما هي عليه، وزاد عليها! فبعدما استبدل الطبقة
العسكرية الحاكمة بطاقم عسكري أيضًا إنَّما من عنده هو، واستكمل التحالف مع
الطبقات المستغلة الأخرى إقطاعية وتجارية ودينية على ما هي عليه مع تغيير الولاءات!
وإنَّما منذ ذلك الحين زاد الاستعمار إشكالية
أخرى مضافة جديدة في التكوين السياسي العربي، إذ أدخل التجزئة والمنطق الإقليمي
إلى بلاد العرب، فرسم الحدود بينها على طريقته يضمن بها دائمًا خلق واستمرار
النزاع والمنازاعات باذكائه وتغذيته تحسُّبًا، حيث كانت قد بدأت تظهر أفكار عن
القومية والوحدة العربية آنذاك في مواجهة الاحتلال والخلافة العثمانية معًا.
وشيئًا فشيئًا تحولت هذه الحدود لمُسلَّمات بديهية
بعد مرور ما يزيد عن قرن من الزمان، تساندها اقتصادات أسموها وطنية، ونزعات عرقية
وقبلية وطائفية وجيوش وهمية كرتونية، ومصالح ذاتية ضيِّقة مصطنعة، مِمَّا أنتج ذلك
كُلّه مصالح إقليمية متنافرة ومنطق إقليمي، وكيانات إقليمية استقرت من بعد رحيل
الاستعمار واستمرت مدعومة منه، حيث لم يغادرها، واستمر بتغذيتها لتنتج مفعولها
وآثارها فيما بينهم في كُلِّ حين، لتصل إلى حد الحروب والاقتتال وشكوى وتدخُّل
مجلس الأمن بفضل تخلفهم في الإبقاء على تخلفهم!!
وعليه يمكنك أن تجد التفاسير
تناقص قيمة الإنسان العربي كإنسان، وانهزام
القانون، وسيطرة السلاح والعسكريين على السلطة، وتسيُّد الاستبداد كأسلوب سائد في
كُلّ مكان ولو تزيَّن بصور وأشكال الديقراطية، ودمج مفهوم الوطنية بمفهوم السلطة
بحيث تصبح المعارضة خيانة وطنية، وتصبح الحرية حكرًا على الحاكم يمارسها وحده
كيفما شاء على الشعب والأرض والقانون، وما دونه فإمَّا الخنوع والسكون، أو السجون،
أو الهجرة والرحيل، وما أوسعها وأسلمها خيارات!
فالقطيعة شبه كاملة بين طبقة الحكم وبين الشعب،
حيث تتخذ الأغلبية الصامته الموقف السلبي بالابتعاد والمشاهدة، أو تنساق قطاعات
معرضة لكنَّها غير عريضة في الزلفى والنفاق والتقرب إلى الحُكَّام وتولِّي المهام
التي توكل اليهم!
وعلى هذا النحو دائمًا فإنَّ أيَّة خطوات باتجاه
الحرية ونحو الوحدة أو التقدُّم تتراجع وتنتكس، وتتناقص قوى الثورة العربية، وتفشل
الثورات حيث يجد الاستعمار ركائزه باستمرار، ويجد أعوانه وأدواته دائمًا أدوات
السيطرة والاستقرار حاضرة جاهزة!
فإنَّ خلفية تاريخية واسعة من المعطيات
الموروثة تعطي مرتكزاتها وتهيئ التربة الصالحة لقيمها وقيامها باستمرار وباساليب
متعددة ومتكررة!
إنَّ التحرُّر ونيل الحرية والسعي نحو التقدُّم
والتطوُّر والوحدة والنمو، كُلّ ذلك لا يمكن أن يهبط هكذا مِنَّة أو عطيَّة من
السماء، ولا يتأتى بمجرد نقل النظريات والشعارات أو الرجوات والدعوات وحسن النوايا
وطيب الأمنيات، وإنَّما تكسبه الشعوب بطول وعمق النضالات وتدفع ثمنه غاليًا و
دائمًا لتستبدل الرخيص من تاريخها بالنفيس تصنعه في تاريخ جديد بكُلِّ ما يمكنها
أن تقدِّم من تضحيات وتجليات.
إن هي إلَّا أشواط بعد أشواط عليك أن تقطعها
جميعًا مارًّا بالكثير من المئات من السنين لتصل في ذاتك لإجابة سؤال وجودك
والحياة من بعده، مَن أنت؟ كيف وصلت إلى هُنا؟ مَن أو ما الذي أوصلك إلى ما أنت
عليه الآن؟ فتزداد غوصًا وعُمقًا بحثًا عن الجذور.
و أكثر ما يتجذر فيه التاريخ ويكمن فهو تاريخ
العلاقات الاجتماعية، حيث يحتضن عمق المجتمع العميق أكثر من غيره رواسب التاريخ
وتأثيراته الباقية وجروحه النازفة، ولذلك تجد دائمًا أنَّ المقاومة الاجتماعية
للتغيير هي أشرس المقاومات وأعقدها على مَرِّ العصور.
فحيث كان النظام السياسي العام يقوم دائمًا على
الاستبداد، فإنَّ الأب في البيت والأسرة كان يُمثّل صورة مصغرة للحاكم السياسي
الاستبدادي، فهو نفسه كان قد خضع طفلًا في نظام التربية التقليدي السائد لسلسلة من
قوى الإخضاع المُستمِرّة بأدواتها من العقاب الجسدي أينما كانت في المتناول،
والعيب والحرام والاستهزاء من الناحية النفسية، والتلقي دائمًا والتلقين في التعليم
التقليدي من الناحية البنائية الفكرية، دائمًا هو ذلك النموذج المتكرر من نشأة
الطفل على صورة أبيه ليست الجسدية فقط، وإنَّما على صورته الفكرية أيضًا وعلى
وظيفته الاجتماعية والاقتصادية، ذلك حيث إنَّ المجتمع قد اتخذ قراره مُسبقًا وصمَّم
عليه أن يكرر نفسه دائمًا ! ولِمَ لا؟ لقد اقتنع تمامًا خلال عصور سابقة طويلة
بعيدة بأنَّهُ قد وصل إلى معرفة المثل الأعلى للإنسان النموذج، ولم يتبقَّ له
إلَّا ممارسة ذلك المثل بالتقليد والتكرار لدرجة ربط ذلك بالمفاهيم الدينية
والجزاء الأخروي زيادة في تأكيد التقليد وإحاطته بالقدسية والتسليم، لقد تحولت
البلاد في الذهن وفي الرؤوس من مجرد بُعْد جغرافي إلى بُعْد مُقدَّس، وكل صور
الحياة فيها إنَّما هي بإرادة المجتمع نموذج مكرر واحد لا يتغير حتى بتغيُّر الزمن!
وعليه ثبتت العادات والتقاليد الاجتماعية ومهما كانت عليه وصار من الصعب التخلّي
عنها أو المساس بها حتى أصبحت في العُرف العام كما الخرق لتعاليم سماوية أو أوامر
دينية مقدسة! وكان طبيعيًّا أن يلازم هذا النوع من التربية إلقاء حجاب كثيف على
الحياة الجنسية الطبيعية من فطرة الإنسان، الأمر الذي ردَّها إلى خلفيات الشعور وإلى
دنيا الاستخفاء والمحرمات، وبالتالي أخضعها كذلك للقهر والقمع بحيث أصبحت نوعًا من
الأسرار وعوامل الخجل، حتى أصبح هذا النوع من الكبت وما ينتج عنه حالة شائعة لها آلاف
الصور من الجرائم والعُقد في خفايا مجتمعاتنا وعلنها.
ولمَّا كان الجنس مرتبطًا بالمرأة، فقد تم دفعها
كذلك للمرتبة الإنسانية الثانية رغم الكثير والجليل الذي قدَّمته وتُقدِّمه على مَرِّ
العصور عَبْرَ قرون طويلة، وكان نوع العلاقة بين البنت وأخيها وأبيها وزوجها تقوم
على أساس التبعية المطلقة التي وصلت أحيانًا إلى حَدِّ العبودية! وكأنَّ خلقها
الرقيق الضعيف جريمة تستوجب جعلها خادمة! أو أنَّ أنوثتها تُحوّلها فقط إلى مجرد
متعة! وشتان الفروق بين النظرة إليها حرة كريمة بنت الأكرمين، وبين التعامل معها
كنموذج الجارية! وإن تعجب فما زالت مثل هذه الصور ماثلة في بعض بلداننا وفي الريف
في الكثير من قُرانا!
ولعل بعض هذا التفصيل حول علاقات الأسرة والنظام
الأبوي والنظرة إلى الجنس والمرأة ضِمْنَ تاريخية العلاقات الاجتماعية يمكنه أن يفسِّر
جانب من الصعوبات والمعاناة التي تتسم بها علاقات الجيل الجديد بالجيل السابق، ذلك
أنَّها لم تنجم فقط عن ذلك التباين في النظرة إلى الحياة والوجود واختلاف العصر
والقيم والسلوك والمفاهيم، وإنَّما كذلك في قسوة الجذور التاريخية التي تقوقعت
داخلها تلك العلاقات طوال قرون سابقة وما نتج عن ذلك من تشوهات يستمر صداها وأثرها.
ويمكن تصوُّر كيف كان التركيب الاجتماعي وعلاقات
الانتماء في هذا المجتمع، حيث إنَّ غياب السلطة السياسية كنظام أمن وقانون وخدمة.،
وتسلط القوة العسكرية الغريبة على الناس واستمرار الاستبداد والظلم والبؤس الاجتماعي
قرونًا طويلة تجاوزت العشرة قرون، بحيث أصبح المثل الأعلى للحاكم هو المستبد
العادل! كُلّ ذلك أسهم في انكماش الإنسان العربي ضِمْن قوقعته الذاتية، يشعره
بعزلته أمام مصيره، أعزل أمام القهر الحياتي ولاندماجه مع مفهوم القدر الديني،
يصبح بديهية مقبولة وقدرًا مقدورًا لايجد فرارًا منه، مِمَّا أوجد فيه نزعتين
متناقضتين تتعايشان معًا بغريزة الدفاع عن النفس، وبالاستمرار التاريخي أصبح وكأنَّهُ
نوع من الطبائع الاجتماعية المستقرة!
نزعة فردية عمياء لتأكيد الذات وسد النقص
لانعدام الثقة بها، وقد تصل فيها درجة الأنانية إلى الإهمال الكامل لمصلحة الآخرين
وللمصلحة العامة، كما تصل درجة النفاق والرياء المخزي أمام القوى المسيطرة
والانحناء للعواصف التماسًا للخلاص!
وفي نفس الوقت نزعة جماعية وإنَّما أنانية،
تجمعات يلجأ إليها الفرد في الأزمات كمراكز حماية وقوة يستند عليها للدفاع عن ذاته
المهزومة كالعشيرة أو القبيلة أو الاحتماء خلف مذهب ديني أو وراء طائفة مذهبية.
فإمَّا نزعة فردية تزيد في تفتيت المجتمع، أو
حاجة من الأمن والأمان تجمعه على ألوان من التجمع المحلي والأناني، على حساب
الانتماء الوطني أو القومي، وكانت الدولة العثمانية قد أعادت العشائرية كنظام
اجتماعي وعقلية سياسية إلى النمو والسيطرة في الريف على أثر المد البدوي الذي عاود
السيطرة على المناطق الزراعية في بلاد العرب أيام العثمانيين، كما نمت الرابطة
المذهبية أيضًا، وأضحت رابطة الطائفة الدينية كمؤسسة جماعية كبرى وأساسية بجانب
كونها علاقة دينية، كما لعبت التدخلات الأوربية دورها خلال الحكم العثمانى في دعم
ما يُسمَّى بروح الجماعة ضِمْن الطوائف الدينية المسيحية خاصة وبعض الطوائف
المسلمة كذلك، مِمَّا يمكن معه القول بصورة عامة إنَّ الانتماء الاجتماعي والولاء
كانا ضِمْن الجماعة العربية طيلة قرون لا علاقة لهما بالأرض والجماعة الواسعة، وإنَّما
كانت بعصبية القربى والرابطة الدموية، أو عصبية الدين والطائفية!
وبينما كانت الخلفيات الاجتماعية التاريخية تلعب
دورها السلبي باستمرار في عرقلة تكوين اجتماعي عربي معاصر واضح الانتماء والولاء
إلى الأرض الوطنية أو إلى الجماعة القومية، واضحة العلاقة والصلة بين العروبة والإسلام،
كانت العملية الاستعمارية تسعى للحفاظ على الواقع الاجتماعي القديم وعلى انتماءاته
التقليدية لاستغلالها الكامل والمُستمِرّ، بالإضافة إلى اصطناع وتغذية الإشكالية
الوهمية بين الانتماء الديني للإسلام أو
الانتماء القومي للعروبة، أو مشكلة التخلص والتجاوز لما لحق الإسلام من رواسب
اجتماعية جمَّدت كُلّ قدرة خلَّاقة ممكنة، علاوة على ما أورثنا الغرب جراء علاقته
القاهرة معنا من عُقد التقزُّم أمام قوَّته ومُركَّبات النقص والهرب إلى الماضي
والتمسُّك الأعمى بالتراث، أو التقليد الأعمى للغرب، الذي هو في نفس الوقت يستغل
باستمرار الانقسامات الطائفية ويُغذِّي الولاءات العشائرية، ويقيم على ذلك
استرتيجيته في البقاء، ولم يكتفِ بالتقسيم السياسي واصطناع الحدود ومشكلاتها التي أرادها
مزمنة، وإنَّما أيضًا ايجاد نزعات إقليمية محلية مزمنة كذلك كالفينيقية والفرعونية
والبربرية، مع تغذية وإشعال الصراع دائمًا بين مفهومَي العروبة والإسلام.
وحيث انتهى هذا المجتمع إلى هذا الركود المكرور خلال
كُلّ تلك القرون الطوال، فظلت المحافظة هي همُّه الأوَّل وبالتالي يقوم فيه نظام
القيم على نظام خارجي عنه أو من قبله، قيمه ليست أرضية لا تنبع من داخله من حاجاته
وقناعاته وآلامه، وإن كان هو نفسه الذي صاغ قوالبها ومعظم حدودها، ولكنَّها تنحدر وتتصل
بأوامر الدين ونواهيه، علوية غيبية الحكمة وليست ذاتية المنطق، خارجية مفروضة من
عالم الغيب على عالم الشهادة! كما يبقى المنطق الرئيس في نظام القيم والحال كذلك
هو الممنوع لا المسموح الـ ( لا ) هي المنطق دائمًا وقد تكبر وتتقدَّس فتدخل في منطقة
الدين والحرام حفاظًا على ركود وسكونية المجتمع، فكُلّما تضخمت الذات وتورمت طوال
عهود الضغط والظلم السياسي والقهر، أعادها نظام القيم إلى قمقم العجزوالصغار، هذه
الجدلية المُستمِرّة على هذا النحو شكّلت أسس القيم الاجتماعية السكونية، وتجدها
في الحِكم والأمثال الشعبية مع سند من تأويل أيات القرآن على غير ما ترمي إليه!
حيث القناعة المادية والرضا، فالقناعة كنزٌ لا
يفنى! والرزق مقسوم لا دخل لك فيه ولا سلطان عليه! والتسليم بالواقع! فتقحم إرادة
الله لإعطاء التسليم شكل الإيمان الديني، فالفقر من الله، والظلم في الأرض عقوبة إلهية
على الفساد! أمَّا التقليد الاجتماعي فهو قمة الكمال وأقصى التطلع الديني !
كما إنَّ الشعور بالعجز وصغر الإنسان أمام الله
يسحبونه على صغر الإنسان أمام الحاكم أو المستعمر أو أيّ طاغية!
التهرُّب من المسؤولية، فكُلُّ أوزارنا الخلفية
مسؤولية الشيطان! وكُلُّ أسباب تخلّفنا وعجزنا وهزائمنا مسؤولية الاستعمار
والمؤامرة!
الاتكالية، فرزقكم آتيكم وما توعدون، ولا
تُفكِّر فالله يُدبِّر، و"ما جاتش عليَّ أنا يعني، مش أنا اللي هاصلح الكون
يعني"!
النفاق الاجتماعي، حيث إنَّ مَن يأكل من خبز
السلطان يضرب بسيفه!
الشرف الجسدي، حيث تحوَّل مفهم الشرف من
القيم المعنوية إلى الإطار الجسدي! فبينما هو قيمة اجتماعية كبرى ارتبط بأدنى ما
في الجسد! فماذا عن اغتصاب فلسطين وسقوط بغداد؟!
وغير ذلك من القيم المتدهورة والتي لم تكن لتقوم بذاتها وتستمر في البقاء لولا
الركود الحياتي الدائم، نظام كامل من الإرهاب الاجتماعي يسهر عليها وعلى كُلِّ فرد
خفير وكل عين رقيب، غير العصا الدينية المرفوعة دائمًا بالثواب والعقاب من غير
مناسبة وفي الدنيا كما الآخرة، فمنذ العهود التركية الأولى إلى المملوكية إلى العثمانية
أسهمت جميعًا في توطين وتوطيد هذه المُسلَّمات الاجتماعية في عزلة كاملة غافلة عمَّا
يدور في العالم من حولها من ناحية، ومن ناحية أخرى وأهم، تخلُّفها حتى عن النظرة
الصحيحة لماضيها وتاريخها! عَبْرَ رؤية أنَّهُ لم يَعُد مطلوبًا شيء آخر في الحياة
إلَّا تكرار هذا النموذج الذي عرفناه يومًا في تاريخنا وإحاطته بهذا السياج المتين
من العزلة والتخلُّف!!
بينما إنَّ نفس هذه القيم الاجتماعية كانت في زمن
عربي آخر بحضارة ناشطة متفجرة حية، كانت نوعًا من الصبر على الشدائد، والعون
والترضية الإيمانية والمعونة الخلقية السامية والحفاظ على النبل وهكذا، وإنَّما
كان ذلك يوم كانت قيم العلم والعمل والفكر والإبداع والتطوُّر فاعلة متحركة
ديناميكية حية لا تتوقف عند زمن، لكنَّها انحطت وتغيَّر مفهومها واستعمالها يوم
غابت هذه القيم عن الحياة العربية في عصور الركود والتكرار والتقليد، فبقيت أشبه
بالقوالب الجامدة الفارغة، فصار الصبر استسلامًا، والرِّضا الإيماني جبرية خانعة،
والاستعانة بالقوى الروحية والإيمانية اتكالية وقصورًا ذاتيًّا.
وهكذا امتد فيك التاريخ رغمًا عنك، لكنك أصبحت
الآن تعرف كيف وصلت إلى هنا، وكيف أصبحت أنت هو ما أنت عليه الآن، وإذ يتسع المقام
فلسوف تجد الأمر كذلك في كُلّ حقل ومجال، حيث هناك في العمق منك سوف تجد جذور التخلُّف
ثابته، ما دامت لم تُجتث ولم تجد مَن يواجهها ويكشفها بدلًا من أن يعتز بها
ويعززها، فتظل تنبت وتورق وتثمر تخلُّفًا فوق تخلُّف، وتتنوَّع الألوان والصنوف في
مختلف الحقول وشتى المجالات وتتزايد وتتكاثر دورات الحصاد ونستمر في دائرة مفرغة
لا نهائية من إعادة إنتاج التخلُّف على
كُلّ لون وشكل، فرديًّا وجماعيًّا في مختلف الفصول وكامل الحقول، وباستمرار ذات
المنوال على نفس الحال تزداد الجذور قوة ومتانة وتشبُّثًا بالأرض وعلى بوارها تظل
تطفح أمراضها فتتوطن تفاصيل الوطن المُجزَّأ والمُفتَّت كبِرَك صغيرة متناثرة آسنة
تفوح منها رائحة الفساد والعفن، فتستشري الأمراض وتتناثر الجثث، وتولد الأجيال في الجنائز،
فإمَّا عقيمة تمضي إلى حيث مدفن الوطن في مثواه الأخير.
أرأيت مآساة هكذا ؟! أعايشت ألمًا كهذا ؟! إنَّهُ يعيش فيك وتعيش به، وإلَّا فمَن
أفقدك الشعور، عَلَّهُ نفسه الذي زرع فيك وخلق لك كُلّ تلك الأورام الخبيثة من
حولك والتي حتمًا تصل إليك، ولكي يبدو رحيمًا بك فلقد صاحبك بكُلِّ تلك المُسكّنات
والمخدرات والمُلهيات من كُلّ نوع ولون، لكنَّها لم تَعُد تُجدي إذ تفيق على
الضياع، ويمكنك حينها أن تشعر بالألم، حيث يستغرقك وتعيشه كاملًا في كُلّ أوصالك،
لكنك قد تكون عندها فقدت شعور الأمل ومشاعر الأمنيات، وسوف لا تستطيع أن تحلم أو تتمنى،
وسوف ترضى دون رضا، وتعيش دون حياة! إلَّا أنَّ الألم يعتصرك إلى أن تستفيق، فلا ضير أن تملؤك
الحسرة على كُلِّ ما فاتك دون جدوى، يعتريك الندم إذ تستقيق وتدرك أنَّك أصبحت
أضحوكة البشرية وأهذوءة الأمم في سلسلة من مساخر الزمن، اِقتربْ أكثر سوف ترى مَن
ذا الذي يعبث فيك، يعبث بوجودك وكيانك، من أين جاءك؟ ومَن ذا الذي أتى به ومنذ متى؟،
كُلّ هذا الوقت، طوال هذا التاريخ، ينتهك حدودك، يهتك أبوابك، يغتصب أفكارك، يزني
بعقلك ويلووط بمشاعرك، إلى أن يعدم وجودك أو أن يكون وجودك كما العدم! وأنت، أنت
الذي تسمح له، أنت الذي سمحت له غافلًا أو مستسلمًا تائهًا غائبًا، أنت الذي جعلت
من نفسك هكذا ممسوخًا مُشوَّهًا، أنت كما هو يريدك مسخًا لا يمكنك أن تصل إليه،
إلَّا أن تستفيق تواجه الألم، تستأصل الورم، تبتر العدم لتكون، يأتي السؤال منك
لتعود الإجابة إليك، يمكنك أن تتطهر وأن تثأر، تعيش وتحيا وإنَّما بكرامة، أو تموت
بشرف وشهامة، أن تعيش أو تموت لا يستويان أبدًا، وأن تعيش مَيّتًا فلماذا جئت أصلًا؟
ويمكنك دائمًا إن أردت أن تموت إذ تموت حيًّا. لا تنتظر الأحداث ولا تنتظر أحدًا ولا
تنتظر شيئًا ، لا تنتظر الحياة أن تأتيك بينما يمكنك أن تبدأها وأن تخلقها أو
تصنعها.
وقد تولد أجيال عظيمة تشمخ من هول التحدِّي
فتستجيب تجتث جذور التخلُّف وتمضي في البناء فيستجيب القدر وتستعيد الحياة.
فهذا هو أنت، ومِن ذا الهناك البعيد قد جئت، هو
الذي أوصلك إلى هنا، وهذا هو ما أصبحت عليه، لكنك إن شئت فتلك لحظة الاختيار
واتخاذ القرار.
فهل أنت راضٍ، راضٍ وسعيد بما أنت عليه، سعيد وبإدراك
أنَّ هذا هو ما يجب أن تكون عليه، بحيث إنَّك تريده أن يستمر في امتداداتك على ما
هو عليه، أو رُبَّما سيكون أفضل، كيف يمكن أن يكون أفضل؟ ماذا أعددت لهم؟، كيف هي الحياة
حين تغادرها؟، كيف ستتركها لهم؟، أوَ تعرف؟، أم إنَّك لا تريد؟، أو رُبَّما إنَّك تعرف
أنَّك لا تستطيع أن تعرف؟، هل أنت في حال أفضل مِمَّا كان عليه أسلافك؟، كيف
تسلمتها حينما غادروها؟، وكيف تسلموها مِمَّن غادروهم؟، إلى أن تنتهي هذه السلسلة،
أين تنتهي هذه السلسلة؟، أيَّة حلقة منها تلك التي تريد أو كنت تتمنى أن تتسلمها
وتستكمل مِن عندها؟، رُبَّما كنت ستكون في حال أفضل وتغادرها على يقين أنَّهُ سيستمر
من بعدك أفضل، وأنَّك سوف تُسلمها أحسن مِمَّا تسلمتها، أم إنَّهُ مجهول يُسلّم
مجهول في محيط واسع من المجاهيل والتجهيل؟، قدر لا تعلم عنه شيئًا وعندها يعود بك
السؤال إلى السؤال الأزلي الأوَّل، فمَن أنت؟!
لكنَّك حتمًا ولا بُدَّ أنَّك تعرف أو رُبَّما من
حين لآخر تُفكِّر في محاولة منك أن تجد نفسك وتعرف مَن هو الذي أنت عليه الآن؟ وما
الذي قد أوصلك إليه؟، ومِن ثمَّ تواجهه وأنت تواجه ذاتك ومصيرك ومستقبلك، مع
اليقين الكامل الذي لا بُدَّ وأن تستخرجه من ذاتك، أنَّك إن شئت وإن تُرِدْ فإنَّك
تستطيع وإنَّك حتمًا قادر.
أنت لست فاشلًا، كما أنَّك لست وحدك. فأنت لست
مسؤولًا عن كُلّ هذا الذي جرى، ولم تكُن تعرفه ولا أنت صانعه، ولعلّك لم تكُن
لتتصوره، لكن هذا كُلّ هذا وأكثر هو الذي قد حدث، وهو الذي ما زال يحدث ويستمر، لكنَّك
أنت ومعك الملايين من الشباب العربي في كافة أنحاء الوطن هُم تمامًا مثل ما أنت
عليه وهُم معك الآن، امتلأت مسامعهم ومعايشهم بهذا الضجيج وهذا التبجُّح الفارغ عن
تقدُّم لم نعايش منه شيئًا ، وحضارة لم يمتد منها فينا شيئًا ، ومستقبل لا نرى له
أيَّة ملامح ولا أيَّة خطوة على أيّ طريق، ولم يَعُد بوسعنا أن ننتظر شيئًا أو
ننتظر أحدًا، ولم يَعُد أمامنا إلَّا أن نشُق طريقنا بأنفسنا، ذلك إن كُنَّا نريد،
أن نعيد خلق أنفسنا بوعي وإرادة من جديد، أن نصنع حياتنا ونخلق السعادة من حولنا،
ليست فقط سعادة المحاولة، وإنَّما سعادة الوصول وتحقيق الأهداف تلو الأهداف، نحيا
بسعادة الانتصار على الصعاب، نستشعر قيمتنا وقيمة وجودنا، نمضي في طريق تحقيق
غاياتنا، نسعد بمعاناتنا ونجاحاتنا على الطريق وفي كُلّ خطوة منه، نريد أن نجعل
حياتنا أفضل وأجمل وأسهل وأوضح، نريد أن نعيش أنفسنا وذواتنا دونما مسخ أو تشويه
أو تقليد، نريد أن نحيا كما نريد، كما نحب، كما نرجو ونتمنى، وكم هي جميلة
أمنياتنا، نريد أن نتحرر كي نتقدم ونتحرك، نتحرر من كُلِّ تلك القيود والأغلال،
وننطلق للأعلى وإلى الأمام، نريد أن نُحلِّق بعيدًا كما يحلو لنا، وكما يحق لنا
ونحن نستحق. ( كيف؟ )
كيف تفكر؟
نحن
على دين آبائنا!
لماذا نرفض التغيير؟ لماذا نقاومه! لماذا لا
نسعى إليه؟، لماذا لا نحاول الوصول إلى ما نحب ونريد ونتمنى؟، لماذا لا نظل نحاوله
ونصبر عليه ونُصِرُّ، إلى إن نصل إليه حتما؟!
إلَّا إذا كُنَّا أصحاب مصلحة في البقاء على ما
نحن عليه، فلعلَّها الصورة المثلى للحياة، وليس هناك ما هو أفضل مِمَّا نحن فيه،
أو لعل التغيير واستعجال القادم والبحث عنه والسعي إليه قد يأتينا بما هو أسوأ،
فنحن إذن لا نثق بالغد ولا نأمنه ولا نتوقع منه خيرًا حتى وإن لم نكُن على خير
الآن، ونعرف إنَّنا لسنا بخير أبدًا، كما إنَّنا لا نثق بأنفسنا ولا نثق بقدرتنا
على التغيير، ولا نثق بقدرتنا على أن نصنع ما هو أفضل ولا حتى أن نسعى إليه ونأخذ بأسبابه
فقد نحقق وقد ننتصر وقد نغير حياتنا لما يجب أن تكون عليه، ولما نحب ونتمنى أن تكون
عليه، لعلّنا لسنا على يقين أنَّنا سوف نكون أفضل حالًا بعد التغيير، رغم أنَّنا على
كُلّ اليقين بالأدلة الحياتية اليومية الدامغة أنَّ حالنا بائس لا يُرضينا ولا
يرضي أحدًا، وأنَّ المستقبل أسود وأسوأ إذا استمرَّينا هكذا بما نحن عليه، لكن لعلَّه
خير، ولعلَّه ( إن شاء الله ) يأتينا ما هو خير من ذلك! متى يأتي؟ كيف يأتي؟ لا
نعرف، لكنَّنا ننتظر على أمل أن يأتي! وقد نكون رغم ذلك على اليقين أنَّهُ سوف
يأتي، قد يتأخر لحِكمة لا نعلمها لكنَّهُ سوف يأتي ولا نملك إلَّا أن ننتظر ونظل
ننتظر وفي يقيننا أنَّهُ لن يأتي إلَّا أن نستحقه، فيعود الإقرار بانعدام الثقة
بأنَّنا لا نستحقه، اللهم إلَّا تسوُّلًا ورجاءً وغيبية خرافية لا منطق فيها ولا
عدل، أو معجزات خارقة قد نستحقها لسبب نظنه ولا نعلمه في زمن ولَّت فيه المعجزات،
ونحن على يقين إيماني أكيد أنَّهُ قد انتهى زمن المعجزات!
فنحن على دين آبائنا!
كُنَّا نعبد الأصنام! كُنَّا نصنع آلهتنا من
التماثيل، وأحيانًا نصنع التماثيل من العجوى! وكُنَّا نتقرَّب إليها ونعبدها ونُقدِّم
لها النذور والقرابين، ونطلب عونها ورضاها، ونخشى غضبها ونقمتها، لكنَّنا إذا جُعْنا
نأكلها!
وكُنَّا إذا جاءنا مَن ينهانا عن ذلك التخلُّف
والجهل والغباء ويأتينا بالحجة وكل المنطق الذي لا يخفى علينا بأنَّنا نعبد ما لا
ينفعنا ولا يضُر، إنَّكم تعبدون ما تنحتون، فيدعونا للتغيير إلى ما ينفعنا استجابة
لتفكير عقولنا وتحقيق مصالحنا، فانظر كيف كُنَّا نرفض متعجبين ومستنكرين، وكيف
تجرؤ أن تذكر آلهتنا بسوء! أنترك ما كان يعبد آبائنا وأجدادنا! كلَّا وحق آلهتنا،
نحن على دين أبائنا!
لا سبيل إلى التغيير. المجتمع يرفض التغيير.
بكُلِّ ما في أسبابه من حكمة ومنطق ومصلحة في الدنيا والآخرة! فالوجهاء من القوم
أصحاب المصلحة في بقاء الحال على ما هو عليه يقودون الجهلاء والمتعصبين والتابعين
لمقاومة التغيير والحفاظ على نعمة الاستقرار! وحتى إن كان الاستقرار مع الجهل
والكفر فهو أفضل حالًا من تغيير منشود موعود لا نعلم عنه شيئًا ، مَن يدري لعلَّ
حالنا هكذا أفضل من حال لا نعلمه!
لكن
إبراهيم يُفكر، ولم يكُن بَعْدُ نبيًّا، يستخدم نعمة العقل البشري التي أودعها
الله خلقه وعباده، لكنَّهُ لم يُفكّر كما فكَّر أهله وقومه ومجتمعه وبيئته، لقد
فكر بعقله في عقله، راح يُقيِّمه أوَّلًا ويراجعه، يفكر فيه كيف يفكر به، فالعقل
آداة التفكير ما لم يكن سليمًا صحيحًا يقظًا مُعافًى فلن ينتج إلَّا معطوبًا مثل ما
هو عليه، حيث هو الأداة التي يتفاعل بها مع البيئة من حوله فينتج أفكاره كيف فكر،
فإنَّ هو فكر كما تُفكِّر بيئته فسوف يعيد نتاج أفكارهم وهكذا فلقد أصبح هذا بعد
حين هو عقل البيئة مُكرَّرًا مُستمِرًّا، لكن إبراهيم لم يفكر بطريقة تفكيرهم،
ففكر كيف يمكن أن يفكر عقله فاهتدى وبدأ يبحث عن رَبِّه يخاطبه قبل أن يعلمه، وصل
عقله إلى حتمية وجوده، فظل يبحث عنه فاهتدى إليه بعد حوار لا بُدَّ منه فوصل إليه فطلب
عونه في مسعاه، فكان الله معه أيَّده ونصره وأرشده إلى طريق التغيير الذي يرفضه
قومه ويآباه المجتمع.
ويستمر إبراهيم عليه السلام وبعد أن وصل إلى رَبِّه
يُعمل عقله ويبحث عن اليقين (قال رَبِّي أرني كيف تُحيي الموتى، قال أو لم تؤمن،
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) عليه وإليه السلام يُعلّم البشرية وكل بني الإنسان، فلمَّا
أصبح على يقين التغيير، عقد العزم والتصميم وامتلك الإرادة والقوة والإيمان، فحمل
معوله وراح يحطم آلهتهم إيذانًا بهدم مرحلة مظلمة في التاريخ البشري وإعلان مرحلة
أخرى يدرك فيها الإنسان رسالته والغاية من خلقه وينقذ فيها البشرية من الجهل ويفتح
الآفاق للإنسانية للتقدُّم وإبصار نور الشمس وضوء القمر رغم مرورهما وتعاقبهما
كُلَّ يوم في سماء الدنيا، وهو الأمر الذي لم يتغير من قبل إبراهيم وبعده، لكن
الذي تغيَّرهو طريقة التفكير، رؤية إبراهيم عليه السلام، عزمه وعون الله على إرادة
التغيير والصبر عليه والتمكن منه والانتصار على الواقع والوقائع والماضي والانتقال
والتقدُّم إلى المستقبل.
كان هذا هو العقل الذي خلقه الله في إبراهيم كخلق
عقل أبيه آزر وعقل كُلّ قومه وعشيرته وعقول الخلق أجمعين، لكنَّهُ إبراهيم رفض أن
يرث طريقة تفكير هذا العقل الذي كانت عليه كُلّ بيئته، رفض أن يفكر بطريقتهم
وينساق في قطعانهم فقاطعهم، قاطع طريقة تفكيرهم وقطع حياته عن دورة حياتهم، وأبدع
طريقة أخرى وصنع طريق آخر، فخلق الله له حياة أخرى في قلب نفس العالم وإنَّما في اتجاه
تطوره وتقدمه وتحقيقًا لمصلحته وسعادته، وحارب إبراهيم عليه السلام الجهل وانتصر
عليه وأعلن الحرب على الوثنية والأصنام وأرشد البشرية لوجود الله وعونه لكُلِّ من
يبحث عنه فيعرف طريقه ويدرك رسالته ويحقق غايته.
هكذا فكَّر لوط عليه السلام، ولم يكُن ما عليه
قومه من رجس ودنس مُحرَّمًا، ولكنَّهُ فكَّر بعقله في عقله، ليس كما يفكرون كما
يرثون وينساقون كما كُلّ القطعان، كيف آتي ما يأتون، الخلق بين ذكر وأنثى، كُلّ الحياة
وكُلّ ما حولنا من طبيعة ما بين التشابه والتناقض، ما بين التجاذب والتنافر، كيف
يأتون الذكران من العالمين! كيف يمكن أن تستمر الحياة! لا يمكنها أن تستمر ضد
طبيعتها، طبيعة خلقها ووجودها واستمرارها، إلَّا أن يكون جنون قد اعتراهم وعراهم،
هذا ليس خللًا في تكوينهم ولا مرضًا قد أصابهم، ولا هُم هكذا أحرار، ولا حرية في هذا،
إن هُم إلَّا عبيد هواهم وشهواتهم وشذوذ قد أصاب عقولهم، هذا شذوذ لا يمكن أن تستمر
عليه البشرية، فقاطعهم، قاطع قومه، لم يأتِ أفعالهم، قاطع دورة حياتهم وطريقة
تفكيرهم وأسلوب حياتهم ومعيشتهم، وأراد التغيير ودعاهم إليه وصبر عليه، ولم يهتز
ولم يتغير، ولم يضعف أبدًا، وظل على إيمانه إلى أن أنجاه الله وأهله إلَّا امرأته
التي لم تؤمن بالتغيير رغم أنَّها لم تمارس جهلهم ورذيلتهم ولكنَّها قبلت بهم لم
تنهَهُم ولم تدعُهُم فأقرَّتهم على ما هُم فيه من جهالة فأهلكها الله مع الهالكين،
وأنقذ الله البشرية بنور العقل الذي أودعه الله لوط كما أودعه قومه وكل خلقه وإنَّما
كيف استخدمه لوط وكيف كانت طريقة التفكير وإرادة التغيير فأراد أن ينتصر فثبَّته
الله وأعانه وانتصر لتستمر البشرية وتسعد وتتقدم فتنفذ إرادة الله في خلقه وتستمر
رسالة الإنسانية في العدل والخير والصلاح والإعمار.
والذي خلق
الخلق كُلَّه، وسخَّر الوجود كُلَّه للإنسان إنَّما كان ذلك لكامل حريته ومطلق
سعادته مخاطبًا عقله الذي أودعه إيَّاه لا يتصادم معه أبدًا ولا ينهاه إلَّا عن
هواه الذي رُبَّما أهلكه، إنَّما يريد أن يحرره من كُلّ صنوف وألوان العبودية
إلَّا العبودية لله خالقه وبها فقط وبها وحدها يتحرر من كُلّ شيء وأي شيء فيصبح
عبدًا حُرًّا كُلَّما كان على اليقين بمطلق العبودية لله كانت له مطلق الحرية على
كُلِّ أرض الله وأمام وبين كُلِّ مخلوقاته لا يدع لشيء أو أحد كان يستعبده طالما كان
على اليقين أن خلقه الله إن وعى وآمن وأراد واختار أن يكون عبدًا حُرًّا، يتحرر عقله
فيفكر، إنَّ الله يحب عباده إذ خلقهم، إنَّ الله يحب خلقه، إنَّ الله يحب الإنسان،
وسخَّر له الوجود وكل ما في الوجود لسعادته، ليعينه على رسالته، لم يخلق الله الإنسان
ليشقيه أو يعذبه وقال له أنا الرحمن الرحيم وأنا خير معين، لا تشك في قدرتي لقد
خلقتك من طين، لقد استخلفتك في الأرض وأنا أعلم بك منك، فكُن على الصراط المستقيم،
أتمِمْ رسالتك وكُن سعيدًا في حياتك، لقد سخرت كُلّ ما في الكون من أجلك، ولم أحرِّم
عليك إلَّا ما يهلكك ويضرك وهو قليل، ويمكنك أن تصل إليه بعقلك، وكل ما دون ذلك
مباح لتسعد به وتنعم، والأمر لك، لك الاختيار كُلّه حُرًّا، والقرار قرارك كُلّه حلوًا
كان أو مُرًّا، أنَّهُ لك، وأنَّهُ بك، ولأنَّني العادل فلا بُدَّ كذلك أن يعود
عليك، ولسوف يعود عليك. فإنَّك حتمًا مقضيًّا عائد إليَّ كما يعود كُلُّ الخلق،
أنظر حولك، أعمل عقلك، أين ذهب كُلُّ مَن كانوا قبلك؟ إليَّ مرجعكم. وأيًّا كان
اختيارك، وأيّما كان قرارك كُن مطمئنًّا، سيصل إليك رزقك، وستحصد دائمًا نتاج عملك
وسعيك أيّما كنت وأينما كنت، أنا لا أرضى لك الظلم، ولا أقبل عليك البغي والطغيان.
ويُكلم الله موسى عليه السلام وكُلَّ موسى في الكون،
ويُكلّفه ويأمره أمرًا قاطعًا حازمًا حاسمًا:
(اذهب إلى فرعون إنَّهُ طغى)
وكُلُّ فرعون استخفَّ قومه فأطاعوه لا بُدَّ له
من موسى، وبعون الله إذ يطلب عون أخيه هارون، هذا أمْر مِن الله اليكم ومِن أجلكم.
فلماذا نظل على دين آبائنا؟! نرفض التغيير والتقدُّم
والتطوُّر، ونعصى أمْر الله ولا نُفكِّر في حالنا، ولا نسعى لتحسين حياتنا وتحقيق
مصالحنا، وإنفاذ رسالتنا، ونعيش سعينا في الأرض وسعادتنا في الدارين؟! ما الذي
نخشاه إلَّا إذا كُنَّا نعبد غير الله؟!
ولمَّا أرادت مريم العذراء أن تنشق عنها الأرض
فتبتلعها أو أن تكون نسيًا منسيًّا فقال لها الله هزِّي إليك بجذع النخلة تساقط
عليك رطبًا جنيًّا، فكُلي واشربي وقرِّي عينًا، حتى فيما تراه مصيبة كبرى دونها
الموت فلتهدَئي ولتطمئنِّي، لا يريد الله لها الجزع والخوف والشقاء ولا لأحد من
خلقه، لا يريد الله إلَّا الخير لعباده لو يعلمون. فإنَّكِ وما تحملين آية
للعالمين رسولًا يكلم الناس في المهد صبيًّا يُبلّغهم رسالاته ويدعوهم للمحبة
والتسامح، ويُبشِّر بنبيٍّ من بعده اسمه أحمد (...... ) يبلغ العالمين اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينًا.(................................ ) س
(أمَّة وسطًا، خير أمة أخرجت للناس، تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر) س، تحاربون الفساد وتجاهدون في سبيل الله لعزِّكم
ورفعتكم، تجاهدون بأموالكم وأنفسكم إنفاذًا لغايته ومشيئته وإعمالًا للرسالة
الأسمى في إعمار الأرض وإقامة العدل حيث إنَّكم مستخلفون فيها. لا نريد منكم جزاءً
ولا شكورًا، كُلّ هذا لكُم، لسعادتكم، لاستقامة حياتكم بما يليق بخلقكم أنتم بني
الإنسان، وبما كرَّمتكم على العالمين في أحسن تكوين وتقويم.
مَرَّة أخرى وأخيرة لو تعلمون، وهو نفس القانون
الكوني في التغيير، كيف فكَّر محمد، نعم محمد لأنَّهُ لم يكُن بَعْدُ نبيًّا، بشرًا
عاديًّا له نفس التكوين، له نفس العقل في رأسه كما كُلّ العباد، الذي اختلف هو
طريقة التفكير، لم يسلم محمد رأسه إلى قومه، احتفظ لنفسه بعقله، فكَّر فيه قبل أن
يفكر به، وفكَّر فيه به، فلم يمضِ خلف القطيع، وكان يستطيع، ورُبَّما كان أسهل
وأنجع، لكنَّهُ حين أعمل عقله قاطعهم، اقتطع نفسه من دائرتهم وطريقة تفكيرهم
وأسلوب حياتهم ومعيشتهم وأخلاقهم، صنع لنفسه بنفسه عالمه الذي يريد أن يعيش فيه
ويفكر ويسعد، فاعتزلهم ما استطاع، يتفكر حيث هو في الغار في هذا الملكوت يبحث عن
الغاية، يتمنى لو يدرك الرسالة، إلى أن تنزَّل عليه جبريل عليه السلام يبلغه
اختيار رَبِّه، ويُبلغه الرسالة الأخيرة، فبدأ الرسالة بأمر رَبِّهِ: (اقرأ)
تلك الرسالة التي عُرضت على السماوات والأرض
والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان.
ولك أن تتخيل هول وعِظم ما ألقي عليه صلوات الله
وتسليماته عليه، ولم يكُن أحد على الأرض قاطبة ولا في البشرية جمعاء ليعرف أو يُصدِّق
ذلك الذي حدث، فأنَّى لبشر واحد فرد أن يبلّغ رسالة رَبِّه للعالمين ويُغيِّر، وجه
الأرض، ويُتمِّم الدِّين!
والناس كُلُّ الناس على دين آبائهم، ونحن على
دين آبائنا كذلك!
والناس ترفض التغيير والتطوير والتقدُّم، بل
تخشاه وتمنعه وتحاربه، الناس تختار الاستقرار ولو على الظلم والجهالة، ولا تريد أن
تبصر النور إلَّا أن يكون ملء جفونهم، أو يمسكوه بأيديهم، أو يخترق أفئدتهم،
سيقولون إن هو إلَّا إفك افتراه، أو إنَّهُ شاعر أو مجنون، أو إنَّ أعجميًّا يلحد
إليه (التخابر مع دولة أجنبية)! كُلّ ما يمكن أن تتوقع أو لا تتوقع من ألوف أو
صنوف، كُلّ شيء وأي شيء رفضًا ومقاومة للتغيير يمكنك أن تلقاه تتوقعه أو لا تتوقعه،
فلا تجزع ولا تتعب.
حين تستمر البيئة التي أنت منها وتحيطك على نحو
ما مُعيَّن فتتفاعل الناس معه، وتستمر عليه تنتج نسق ونمط متكرر في عقولهم وذاكرتهم،
حيث تتشاركون التاريخ والواقع وكل تفاصيل الحياة، وعليه تتشكل عقولهم وأفكارهم
وتصوراتهم وخيالاتهم وواقعهم، فيبنون مستقبلهم واستمرار حياتهم، فيتشكل هذا العقل
الجمعي فيصبح هو عقل هذه البيئة يحركها وتفسر كُلّ الوجود وكل الظواهروالاحتمالات من
خلاله، ويصعب جدًّا أن تفلت منه، وتظل مُقيَّدة به وتدافع عنه، فهي التي أنتجته، وهى
كُلّ خبراتها المتكررة فهي لا تُفكِّر إلَّا به، ولا يدور في عقلها إلَّا تفاصيله
المكرورة، وقد يحاول الشباب دائمًا في مرحلة ما من عمرهم التمرد على هذا العقل
الجمعى، إلَّا أنَّ عقل البيئة الذي تشكَّل عَبْرَ التاريخ يردُّهم بعناده ويحوطهم
بقيوده ويردعهم بعقابه إلى أن تأتي المرحلة المتكررة، فيستسلمون له ويوثقون أنفسهم
بأغلاله، فيعودون يُفكّرون بنفس طريقته مستسلمين، ويمارسون نفس القهر على اللاحقين،
ويدافعون عن كُلِّ ما فيه وكأنَّهم هُم الذين أنتجوه بعدما كانوا حينما اصطدموا به
تمرَّدوا عليه، لكن جماعيته واستمراره وقيوده وأغلاله المتعدده أقوى من تمرُّدهم
عليه، وهكذا تستمر حالة الاستقرار في دورة التخلُّف في ساقية لا تُدِر إلَّا ماءً
عفنًا آسِنًا لا يغنى ولا يروى ظمأً ولا يطرح ثمرًا إلَّا ذلك المعطوب من نفس
النوع المكرور، وهكذا.
إلَّا أن تفكِّر كيف يمكن أن تفكِّر إلى أن تعي
وتؤمن وتريد وتقدر، فتفك قيدك من الساقية، وترفع عن عينيك الغمامة، وتوقف الدوران
في ذات الحلقة، فتبدع حلقة أخرى مبصرة، فتبصر فيها على غير ذات الطريقة، طريقة البيئة
التي أنت منها فيها، طريقتهم التي توصل دائمًا لنفس النتيجة، فتُفكّر بطريقة أخرى،
فتُبدع وسائل أخرى، فتصل لنتائج أخرى إنَّما هي تلك التي تريدها أنت، وتستكمل
فتصنع حياة أخرى إنَّما هي تلك التي تريد أن تحياها أنت، فتكبر فتتسع فينجح
النموذج فيكون التغيير يحمل من داخله التغيير، وتستمر الحياة إنَّما للأمام وصولًا
لغايتك وتحقيق رسالتك التي استوعبت وأدركت.
ليس بالضرورة ولم يَعُد ممكنًا أن نكون أنبياء أو
تأتينا الرسل، انتهت الرسالات، ولا أن نكون أو نبحث أو ننتظر قادة تاريخيين غيَّروا
مجرى التاريخ يومًا ما، قد يطول الانتظار وقد لا يأتي أحد، أو قد يأتينا فاشلٌ ويُفشلنا،
أولئكم جميعًا لهُم مثل ما لنا، نفس الخلق ونفس التكوين، ليست عقولهم أكبر أو أصغر
حجمًا، إنَّما هي كيفية الاستخدام، طريقة التفكير، إدراك الغايات، دقة تحديد
الأهداف، صدق قراءة الذات، بصيرة تستشرف الآفاق، رؤية، قدرة و إبداع الوسائل
والأساليب والتقييم والتقويم والاستمرار.
دائمًا ما
يبدأ الأمر بفكرة، طريقة التفكير تنتج الفكرة، تكبر الفكرة وتنضج تتضح تصبح رؤية،
تتنقل الرؤية تصبح دعوة، تتحرك الدعوة تصل إلى عقول لها نفس طريقة التفكير تتمرد،
تواصل الدعوة التحرك وتكبرمعها العقول في دائرة أخرى جديدة، تكبر الدائرة إلى أن يتشكل
بداخلها النموذج، يكبر النموذج وينجح، تحتوى الدائرة كُلّ إمكانات الواقع، وتتحرك
إلى المستقبل تخلق عالمًا جديدًا، هكذا دائمًا يجب أن يفكر عقل الإنسان إذ يتفاعل
مع البيئة ومع موروثاتها التي تشكلت منها، إذ يتطلع الإنسان دائمًا إلى التطوُّر،
إلَّا أن يكون موروث البيئة الذي شكَّل عقلها وطريقة تفكيرها أقوى من طبيعة ورغبة التطوُّر،
هُنا يقبع معظم الإنسان ويقنع، إلَّا مَن لهم الرغبة الأقوى والتطلع إلى الأفضل ويسوءهم
الواقع وينحون إلى التمرد، ولكن لديهم قدرة التفكير خارج تقليدية البيئة متحررين
من القيود والأغلال التي فرضها عقل البيئة الجمعي على مجتمعها صغر أم كبر، تنوَّع
أو تعدَّد، هَرِم أم كان شابًّا، مُستقرًّا كان أو مضطربًا أو متخلفًا.
أولئكم هُم مَن يطورون ويتقدمون بالمجتمعات، وإذ
يستمر المجتمع في تطوره وتقدمه يصنع حضارته ويرتفع مستوى حياة الفرد والناس فتستمر
دورات التقدُّم والإبداع والابتكار في كُلّ المجالات، فيستمر التطوُّر والتقدُّم
والإنتاج والتفاعل، وتستمر الحضارة.
أمَّا أُمَّة العرب
الأمر في حالنا مختلف، نحن العرب حالتنا مختلفة،
لم نكُن قبل الدين أمَّة، كُنَّا قبائل مختلفة متنازعة متحاربة، الإسلام هو الذي وحَّدنا،
جعل مِنَّا أمَّة واحدة، طوَّر علاقاتنا وعاداتنا وأعاد تشكيل ثقافتنا، ومعه وبه
نهضت حضارتنا، تأسَّست دولتنا، رُحنا نتفاعل مع العالم بأفكارنا وقيمنا ومبادئنا،
تقدمتنا أخلاقنا وذهبنا نعرض بضاعتنا، لم نعتدِ أبدًا ولم نكن نسمح لأحد أبدًا أن
يعتدي علينا، والويل كُلّ الويل كان لمَن يقرب حدودنا أو أن يمس عِرضنا وشرفنا، أو
أن يجرح كرامتنا، ونزود عن كبريائنا بكُلِّ ما أوتينا من مال ونفس، والنصر حليفنا
والرفعة غايتنا، وما دون ذلك فالشهادة عُرْس لنا، وفي الآخرة جنتنا، الجهاد دائمًا
سبيلنا، والاجتهاد يبقى وسيلتنا، وبأخلاقنا وعلمنا ونهضتنا وحضارتنا تسيَّدنا، تعرَّبت
علوم الأعاجم وتعرَّب لسانهم لمَّا أسلموا ومع كُلّ العلوم تفاعلنا، وظللنا القرون
الأولى من بعده نموذج كُلّ العالم (كان) حضارتنا.
الأمر أنَّهُ بعد جهد واجتهاد وجهاد طويل مرير،
تغيرت طريقة التفكير، تم استيعاب الدين، وصلت الرسالة وظهرت نتائج التغيير الذي أحدثته
الثورة، نجح النموذج وأصبح قابلا للتطور والاستمرار، تحسنت حياة الناس، فهمَت، فكَّرَت،
تحرَّرَت، تغيَّرَت طريقة التفكير، شاركت وتفاعلت، تعلّمت ونجحت و أبدعت وأنتجت
وتقدَّمَت، كان الدين دافعًا نافعًا سانحًا سمحًا سامحًا، لم يقف حائلًا أو مانعًا
أو عائقًا أو جامدًا، امتنع الوسطاء الأدعياء والمنافقون والحراس والطغاة، بينك
وبين الله قلبك ودينك وصدقك وإخلاصك، هو لك والله أعلم به، وبينك وبين العباد قيمك
والأخلاق وعملك وتعاملك، وكُلُّنا أمام ذلك سواء، فالعدل أساس الحكم بين عباد الله
المواطنين جميعًا، لا فرق بين عربي وأعجمي في بلاد العرب، لا فرق بين مسلم وذمِّي
في بلاد المسلمين، (مَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر)، (لا أعبد ما تعبدون، ولا
أنتم عابدون ما أعبد)، ( لكم دينكم ولى دين ) (لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرُّشد
من الغَيّ).
كُلُّنا عباد الله المواطنون على الأرض، لنا
جميعًا كُلُّ الحقوق، وعلينا جميعًا نفس الواجبات إلى أن نكون جميعًا تحت الأرض
يوم يرث الله الأرض و(كُلَّ) مَن عليها.
لم يكُن في شيء من هذا أيَّة بلاغة إنشائية،
إنَّما كانت أعظم من كُلِّ هذا تفاصيل حياتنا اليومية، ويمتلئ تراثنا بوقائع وتفاصيل
ورجال ونساء وصِبية وأطفال وفي كُلِّ مجال أعظم من أيَّة بلاغة وأروع، روعة الواقع
والحضارة والحياة وقتها، لولا أن نفرزها ونُنقِّيها مِمَّا علق بها، لولا أن نستعيد
تذكُّرها وتصديقها وعَرْض حقيقتها لأجيالنا، عوضًا عن عَرْض فضائحنا وهزائمنا وانتصار
رموز أعداء حضارتنا وتمجيد أعدائنا!
لا لم نكُن ملائكة في حينها، ولم تكُن بلادنا
يوتوبيا الفاضلة، كُنَّا مجتمعًا بشريًّا متحضرًا، عرفنا أنفسنا، استوعبنا رسالتنا،
بنينا حضارتنا، عمَّرنا الأرض أينما حللنا، وأقمنا العدل أينما كُنَّا. أخطأنا
واجتهدنا وصوَّبنا، لم نكُن معصومين، اختلفنا واتفقنا وكُنَّا نقبل اختلافاتنا
والأمر شورى بيننا، وركبنا الخطايا وارتكبنا الجرائم في مجتمعاتنا والعدل والقانون
يحكم بيننا، لم نكُن ولم يكُن حُكَّامنا نُسَخًا منسوخة مُكرَّرة، ولم تكُن قيمنا
ممسوخة مُشوَّهة، تفاعلنا مع العالم كُلّه آنذاك، أخذنا وأعطينا، لم نُكرِّر ولم نُقلّد،
تفاعلنا وأبدعنا، وبانفتاحنا على العالم كم حلَّت علينا من مستجدَّات فاجتهدنا
وتعلّمنا وتطوَّرنا، كُنَّا أعظم تديُّنًا لكنَّنا كُنَّا نعلم أنَّ ديننا لا
يمنعنا، بل يحثُّنا ويدفعنا، ولكُلِّ زمن رجاله، ولكُلِّ حال حِلُّه، فالحياة
تمضي، والزمن لا يتوقف، والمستجدات لا تنتهي والأمور في كُلِّ حال ومجال تتغير،
وما دام الاجتهاد لا يقفل، فحضارتنا كانت حينذاك لا تأفل.
لكنَّها من بعد ذلك أفلت، لمَّا أصبحنا على غير
ما استوعبنا وأردنا، وتحررنا وتحركنا بلا توقف في كُلّ اتجاه وفي كُلّ مجال، فلمَّا
أصبحنا على غير كُلّ ذلك معًا وعَبْرَ مراحل من الزمن أفلت حضارتنا عَبْرَ مراحل
أيضًا إلى أن تخلفنا، وما زلنا وعَبْرَ المراحل التي أصبحت متلاحقة ومتسارعة والتي
لم نعد نستطيع اللحاق بها نزداد تخلّفًا أكثر وأكثر، لم يتغيَّر علينا الدين، وإنَّما
تغيَّر بنا الزمن، فلم نعد على نفس استيعابنا فتغيَّر فينا الدين، ولم نصارح
أنفسنا ولم نواجهها، اختلفنا ولم نقبل اختلافاتنا، لم يَعُد مسموح لنا، لم نعد
نجتهد ونبدع، أصبحنا نُكرِّر ونُقلّد، ولم نعد نضيف شيئًا من العلوم والفكر
والثقافة كما كُنَّا قد أضفنا، توقفنا، مرضنا، تفرَّقنا وضعفنا، جهلنا وتراجعنا
وتخلفنا واستمرِّيْنا وما زلنا وكُلَّما حاولنا انتكسنا وتراجعنا، وعُدنا على دين
آبائنا نرفض التغيير ونحارب بعضنا بعضًا، ونعوق الثورة والتغيير والحضارة والتقدُّم!
عُدنا على دين آبائنا!
لكن ليس أباؤنا الذين صنعوا الحضارة قرنًا
واستمروا عليها قرابة قرنين أو ثلاثة أو يزيد قليلًا، ولكنَّا عُدنا على دين آبائنا
الذين كانوا قبل ذلك! صحيح إنَّنا قد نكون لم نعد نعبد الأصنام، لكنَّنا رُبَّما
كُنَّا ندري أو لا ندري قد نكون نُحوِّل الدين مع الماضي كُلّه إلى صنم، أو اختلفنا
فيه ومن حوله ونختلق الأوثان والأصنام كما نريد أو يُراد لنا أن نراها أو نعبدها! تكلست
عقولنا، غامت رؤيتنا وتوقفت اجتهاداتنا، غاب عنَّا استيعابنا حقيقة الدين وفلسفته
وجوهره وغايته وحكمته وقدرته على صلاح أحوالنا ودفعنا وتقدمنا وإسعادنا وعوننا
للوفاء برسالتنا وتبليغها البشرية عمرانًا وعدلًا وتكافلًا وتعاونًا وخيرًا وسعادة،
لم نعد نؤدِّي رسالتنا، أحسسنا بضعفنا وضعف الدين فينا والقصور والتقصير، وبدلًا
من أن نواجه ذلك أخذنا نعوِّضه بالمزيد من القصور والتقصير، فتمسَّكنا بالشكل
والقشور والترديد وتكرار المكرور، ولمَّا فقدنا إرادتنا وقدرتنا استسلمنا للغيبيات
والخرافات والاتكالية والشعوذة وقراءة الكف والكشف عن الغيب وحلقات الزار، وعُدنا
نُقدِّم القرابين ونُقيم الولائم والمآتم ونزور الأولياء والأضرحة، ونُقدِّم
النذور ونُردِّد التعاويذ والتمائم، فتخلفنا واستسلمنا، عُدنا على دين آبائنا، رُبَّما
تغيرت آلهتنا لا ندري، لكنَّهُ الويل والوعيد لمَن يذكر أمريكا وحُكَّامنا بسوء!
ومع ذلك فإنَّنا أصبحنا نُشيِّد أفخم وأضخم
وأكبر المعابد والكنائس والمساجد، وزينَّاها بالزخارف والنقوش، واستوردنا أقوى
المكيفات وأفخر الفروش، ولم ننسَ صناديق التبرعات وجَمْع القروش، تنفتح الأبواب
الفخيمة قبيل الصلاة ونسرع بغلقها عقب كُلّ صلاة ببضع دقائق حيث كُنَّا هناك صفَّين
أو ثلاثة أو بضع صفوف، ثمَّ نخرج تاركين الدين هناك بعدما نغلق عليه كُلَّ الأبواب،
وكأنَّما لم يأمرنا بشيء، وقد نهانا عن كُلِّ شيء، ولم تتغير أخلاقنا ولم يتحسن
شيء، ويحوطنا الفساد والإفساد وسوء الأخلاق، لا شأن لنا، ويسوؤنا الشعور بالظلم وقِلة
الحيلة، ويقهرنا الصمت والألم، ولا تغادرنا مشاعر اليأس والضياع وفقدان الأمل، ولا
يفارقنا القلق على كُلِّ شيء وحوَّل كُلِّ شيء: حياتنا، حاضرنا ومستفبلنا، غذائنا
وكسائنا ودوائنا، وأولادنا ومدارسهم وتعليمهم وأخلاقهم ومصروفاتهم واحتياجاتهم،
ومستقبلهم الذي لا تبدو له أيَّة ملامح، وكُلّ صنوف وصعوبات الحياة وتدبير
فواتيرها وضرائبها والجبايات الواجبة والرشاوي اللازمة لاستمرار الحياة هكذا على
تعاستها وبؤسها.
لكنَّنا وفي كُلّ مَرَّة قبل أن نغلق الأبواب
ونغادرالدين هناك، يقف الإمام يدعو ونحن آمين من خلفه، أن يهلك الله أعداءانا ويُشتت
شملهم ويُفرِّق صفوفهم، وأن يجعل كيدهم في نحورهم، وأن يجعل بأسهم بينهم شديدًا،
أمَّا نحن فيُدخلنا الجنة في الفردوس الأعلى مع النبيِّين والمرسلين والشهداء
والصدِّيقين من غير سابقة حساب ولا نازلة عذاب!
أوَ لم نسائل أنفسنا أو نتساءل أو نتدبر أو ندير
هذا الحوار، ماذا قدَّمنا؟، لماذا تقاعسنا؟، لماذا إلى هذا الحد تخلفنا وكلما
استمررنا استمرأنا وازداد تبجُّحنا، ولا نرى العيب فينا وفي استيعابنا وتفكيرنا
ورؤيتنا، مجرد ماعون عاجز فقط يختزن ويتلقى، لا يرد ولا يحاول ولا يبادر؟ وفي مخزونه
الذي يحمل كنز يعرف أنَّهُ يغنيه ويسعده كما كان قد صنع معه السبق والريادة، ولكن
في هذا المخزون أيضًا كان الحمار يحمل أسفارًا. وبديلًا عن ذلك تلبَّسنا وتقمَّصنا
وألبسنا الدين على كُلِّ شيء، وأقحمناه في كُلِّ شيء، لإحساس دائم بضعف في الإيمان
أو نقص في التديُّن، فرُبَّما يُعوِّض هذا شعور النقص ويرفع الإحساس بالذنب، فذيَّلنا
كُلَّ شيء باسمه، وأسمينا كُلَّ شيء باسمه، وأدخلناه طرفًا في كُلِّ حوار بمناسبة
وفي غير موضع، وجعلناه سببًا لكُلِّ شيء كما لو أنَّهُ سحر أو أنَّ كُلّه غيب يقبع
في مؤخرة رؤوسنا كما في وراء الطبيعة، لم نعد نخاطبه أو نسمعه بعقولنا ونتفكر فيه
ونُفكِّر ونبحث الحكمة والغايات، فحوَّلناه كنوع من الكهنوت والطقوس والطلاسم
والتمائم والتعاويذ، حتى كتاب الله أصبح في بيوتنا أو سياراتنا أو أماكن أعمالنا
كنوع من الزينة أو التظاهر والرياء أو لتحِلَّ علينا البركات، بينما تُغطي جوانبه
الأتربة، وننفض من فوقه الغبار، وقد يكون في علب مزركشة مزخرفة فاخرة، وقد نتبادله
على سبيل الهدايا في المناسبات المُناسِبة، ونرفع صوت المذياع والتلفاز وكُلَّ ما
أوتينا من أجهزة في كُلِّ صباح في المحال وفي السيارات، ونتبادل أحاديثنا ونباشر
أعمالنا دون أن نقرأ ونفهم أو نسمعه، فقط لتحِلَّ علينا البركات ونطرد الجن
والشياطين، ونحفظ أنفسنا من شر العين والحُسَّاد من إخواننا وزوجاتهم وأهالينا
وأقاربنا والجيران والمارة في الحواري والأزقة والشوارع، والذين سمعوا عنَّا، أو
شاهدوا صورة لنا على أيٍّ من الشاشات أو على أيٍّ من البرامج أو الشات (أو كُلّ اللي
شافونا وما صلُّوش عَ النبي)، الذين يحسدوننا على كُلِّ ما وصلنا إليه من فضل
ونعمة وتقدُّم وحضارة (أصل الناس بقت وِحْشة أوي!).
بينما لم يتنزل الدين في جوهره، ولم تكُن الرسل
في رسالتها إلَّا للصلاح والإصلاح والعمار والإعمار والعدل والمساواة والهداية
والسعادة والرضا لكُلِّ إنسان ولكُلِّ الإنسانية حسبما يفكرون فيهتدون فيعلمون ويعملون،
وعليه يكون حصادهم في الدنيا التي يعلمونها، التي سخَّرها الله لهُم، ومهَّدها
وأبدعها ليبدعوا فيها فيسعدوا، وفي الآخرة التي لا يعلمها إلَّا الله. والدنيا
فانية لكنَّها وقبل أن تفنى، فإنَّ المسافة التي نقطعها فيها هي وحدها سبيل الآخرة.
ندري أو لا ندري لعلَّنا نكون قد هلكنا، فلا الدنيا
أدركنا ولا الدين استمسكنا، والله أعلم بالآخرة، فاللهم ارحمنا.
الذين يحسبون أنَّهُم يحسنون صُنعا..............
فهل الدين هو السبب؟
هل التمسك بالدين كان هو سبب تقدُّمنا؟ هكذا
قالوا.
هل الابتعاد عن الدين هو سبب تخلُّفنا؟ وهكذا
يقولون.
ولم نفهم من أيِّهما كيف يرون ويفهمون ويُفسِّرون
ذلك، وما هي كيفية التمسك والابتعاد، وما هو المضمون الذي يقصدونه في الحالتين،
حتى لا تكون شعارات تعفي من عناء البحث والنظر والرؤية، أو غطاء نستر به إحساس
النقص ومشاعر العجز ونتلحَّف به إبراءً للذمة، وإثباتًا للتديُّن شكلًا وشعارًا
تزيدًا ومزايدة!
هل الدين مجرد، قائم بذاته ولذاته ويعمل هكذا
وحده منفردًا فيؤتي نتائجه جبرًا وقدرًا دون تدخُّل؟
وهل هناك أركان بعينها، أو أجزاء مُحدَّدة، وردت
بذاتها هي المسؤولة عن التقدُّم والتخلُّف؟
وهل كُلُّ الأمم والشعوب المتدينة متقدمة، وكل
الشعوب المبتعدة عن الدين متخلفة؟
وكيف حال الدين في أوربا والغرب وأمريكا وإسرائيل
الصهيونية؟ أليست حضارتهم تحكم العالم وتتحكم فينا بل وتذلنا وتهيننا؟! فهل هُم أكثر
تديُّنًا مِنَّا وأقرب إلى الدين؟! أمْ إنَّنا يمكن أن نعتبر أنَّ سَبْقهم وتقدُّمهم
في كُلِّ المجالات والعلوم والثقافة والفنون والزراعة والصناعة والتجارة والسياسة والاقتصاد
والتعليم والصحة ومستوى دخل الفرد وتقدمه ورفاهيته وسعادته وسهولة حياته وغير ذلك الكثير،
أيمكن اعتبارها جميعًا من مظاهر التخلُّف ومن علامات غضب الله؟! الذي لا نعاني شيئًا
منه والحمد لله.
إنَّ عدد الحُكَّام الذين تعاقبوا على حُكم دولة
واحدة منهم وتداولوا السلطة فيما بينهم من غير حروب أو مصائب أو موت، يفوق عدد الحُكَّام
الملهمين الذين جثموا على صدورنا مدى الحياة وحتى الموت في كُلّ دولنا مجتمعة،
ويبدو أنَّهُم محرومون دائمًا من نعمة الاستقرار أو من الحُكَّام الأفذاذ المُعمِّرين
الخالدين والذين لم يأت الدهر بأمثالهم!
لعلَّهم لا يعلمون شيئًا عن الدين، والمؤكد أنَّنا
لا نعلم شيئًا عن التكنولوجيا، أو نعلم عنها كُلَّ شيء ولكن بنفس الطريقة وبنفس
القدر الذي نتعامل به مع الدين! واليقين الأكيد دائمًا أنَّ الدين لا يمنعنا بل
يحثُّنا ويدعونا ويدفعنا أن نكون أكثر وأعظم تقدُّمًا!
وهناك مَن يرى أنَّ الدين أفيون الشعوب، يُخدِّرها
ويُقعدها عن السعي والتقدُّم، وأنَّهُ هو سبب التخلُّف!
كيف يمكن للدين أن يكون سبب للتقدُّم ودافع له،
وسبب للتخلف وعائق للتقدُّم في نفس الوقت؟!
وكيف يمكن أن نُفسِّر أنَّ كُلَّ الاختراعات
والابتكارات والإبداعات التي تفيد الإنسان وتخدم البشرية في هذا العصر، إنَّما هي من
إنتاج هذه الحضارة (الكافرة) والتي ليس لها أدنى صلة بما نتصوره عن الدين؟! وأنَّ
كُلَّ العالم المتدين يلهث وراء منتجاتهم، نَهِمٌ في استهلاكها ولا يستطيع
الاستغناء عنها، ولا يمكنه أن يقلدها أو يشارك فيها، وبالكاد يعاني في فهمها
واستخدامها ومجرد استهلاكها، وكثيرًا وغالبًا ما يسيء استخدامها؟!
إنَّ الله لايظلم الناس شيئًا ، فمَن جَدَّ وجد،
ومَن زرع حصد (وأن ليس للإنسان إلَّا ما
سعى)
وكيف نفسر أنَّنا أصبحنا لا نعرف ولا نسمع عن
النوابغ من علماء العرب إلَّا هناك في بلاد الغرب الكافرة يمهرون ويبدعون، بينما
كانوا في بلاد الدين لا نسمع عنهم شيئًا وما كانوا ليتقدموا! بينما يمكن أن تأتينا
الراقصات من بلاد الغرب فيذيع صيتهم في بلادنا متفوقين على راقصات بلادنا الأصليين!
(وإن تسخروا مِنَّا فنحن نسخر منكم كما
تسخرون)
ثمَّ يسقط في يدك وتسقط وكأنَّك مغشيٌّ عليك
فيما تبقَّى من عمرك، حين تسمع أنَّ الله أعطاهم الدنيا، أمَّا نحن فلنا الآخرة!
وأنَّ الله يمدُّهم في غيِّهم ليُعذّبهم في جهنم وبئس المصير، أمَّا نحن فلنا
الجنة خالدين فيها أبدًا في الفردوس الأعلى وجنات النعيم! وتواصل حياتك هكذا بما
أنت عليه من قناعة كاذبة ورضا زائف بالجهل والتخلُّف ويتأسس عقلك وتتوارثه بيئتك
على نعمة استقراره واستمراره وزيادته!
دعك
منك، لكن انظر إلى أيّ مدى وصل عقلك وطريقة تفكيرك! أو هكذا تُفكِّر في الله، هل
هكذا تنظر إليه وهكذا تسمح لنفسك أن تراه، هل هكذا تنتظر منه أن يكافئك على الجهل
والتخلُّف والهزيمة والقعود بأن يُدخلك الجنة! وأين كنت مذ خلقك وسخَّر لك الدنيا
واستخلفك فيها لتعلي كلمته وتُبلِّغ رسالته! أيكافئك على الانهزام والاستسلام
والخزي والانسحاق أمام كُلِّ صفوف وصنوف الأعداء على كُلِّ جبهة وفي كُلِّ مجال!
أنظر لنفسك كيف شئت، لكن أو هكذا تنظر إلى الله! أوَ لا تستحي من نفسك، أفلا
تُفكِّر في عقلك كيف يفكر!
إذن فالدين ليس هو السبب. وهو بريء من كُلِّ الافتراءات
عليه ومن كُلِّ الذين يُحمِّلونه كُلَّ الأسباب، إنَّما الجُرْم أو الغُنْم هو في كيف
ننظر إليه، كيف نراه، كيف نفهمه، كيف نُفسِّره ونُؤوِّله، كيف نُفكِّر فيه أو نُفكِّر
به، كيف نراه يدفعنا فننهض ونتقدم كما أراد لنا إن كُنَّا نريد، وكيف نريده يعوقنا
فنستسلم ونقعد وننهزم ونتخلف وننسحق كما يريد أعداؤنا.
هل الحوار في الدين أو مع الدين أو على الدين أو
حول الدين، حوار مُقدَّس؟ حيث لا يمكننا تناوله والاختلاف والاجتهاد، ما الذي يمنع،
وبحيث إنَّهُ لا يمكننا أن نخوض فيه إلَّا أن نكون مُؤهَّلين دارسين مُتفقّهين،
إذن كيف نؤمن به ونفهمه دون هذا الحوار؟! كيف نتعامل مع أوامره ونواهيه، وحكمته
وفلسفته وجوهره؟، أوَ لا نؤمن به ويملأ قلوبنا ويملك علينا فؤادنا؟، أوَ ليست هناك
طريقة أخرى غير أولئك الأوصياء والوسطاء والوكلاء، الذين رُبَّما يكونون رجال دين
وغالبًا ما يكونون رجال السلطان؟، فهل نترك لهُم ونأخذ عنهم الأوامر والنواهي والأحكام
والتفسيرات؟، فهل يا ترى لا تتدخل فيها أهواؤوهم وحُكَّامهم والسلاطين وتأويلاتهم
وما يريدون أو يُراد لهُم أو يُراد منهم أو بهم؟، وهل يتَّقون الله فينا؟ أمْ يخشون
ضياع مناصب أو مصالح أو خشية إبعاد أو ما لا يُحمد عُقباه في دنياهم؟، وهل يجرُؤون
على مخالفة الحُكَّام ومصالحهم وأوامرهم وأهوائهم ونزواتهم؟، وهل ما يخرجون به
علينا من آراء ووجهات نظر وتفسيرات يرونها هُم كيفما شاءوا وحسبما شاءوا لأيَّة
أسباب لا نعلمها؟، فهل ما يقولون به تحوطه القداسة أيضًا فلا يمكننا الاختلاف فيه
وأن يكون لنا نظر آخر مختلف رُبَّما عنهم؟ حيث ليست لنا مصالحهم واعتباراتهم ورُبَّما
تشغلنا قضايا واهتمامات غير تلك التي تشغلهم أو غير مسموح لهُم بتناولها أو الإشارة
اليها، أو الاهتمام بها، أو البحث عن تأويل غيرها وإبرازها وتسليط الضوء عليها، هل
من حاجب أو مانع بيننا وبين كتاب الله أن نقرأه ونشعره فنَعِيه ونستوعبه ونعمل به
وننقل عنه ونُبلّغ بما أودعنا الله من عقول وقلوب وروح وفؤاد، أوَ لا نستطيع أو لا
نستحق أو لا يحق لنا حيث ليست لنا الأهلية؟، وماذا عن الذين لا يؤمنون به بعد؟، هل
لا يمكنهم قراءته واستيعابه لعل الله يهديهم إلى الإيمان؟ وهل ما يمنع أن يكون لهُم
فهمهم ورأيهم فيما قرأوا أو فهموا أو استشعروا رُبَّما إيمان وهداية من الله؟، فهل
يجوز؟ أمْ لا يصح ذلك ولا ينبغي إلَّا بوساطة ما رسمية؟، هل ما زالت تتنزل وساطات
من أيّ نوع؟ وهل من قداسة لأي رأي أو اعتقاد أو فكر أو وجهة نظر أو أيّ اجتهاد من
أيّ نوع؟، أمْ أإَّهُ لا يلزم إلَّا صاحبه ولا قداسة فيه وسوف يحاسب فيما ذهب إليه
كما إنَّ كُلّ عباد الله سوف يحاسبون؟. وما هو رأى الفقهاء والعلماء والمجتهدين في
مواقف وآراء وتعاملات وعلاقات سِرِّية كانت أو علانية لحُكَّامنا العرب المسلمين
مع الكيان الصهيوني الذي يغتصب المسجد الأقصى (الذي باركنا حوله) وأسرى بنبي الله
إليه صلوات الله وتسليماته عليه في القدس في فلسطين العربية حيث أخرج الصهاينة
أهلنا من ديارهم هناك؟، ماذا قال كتاب الله في ذلك؟ وماذا قال لكُم الحُكَّام أن تقولوا
لنا؟ وماذا تقولون أنتم منذ ما يزيد عن نصف قرن منذ العام 1948؟ ويعلم الله إلى متى
ووطننا محتل وأخرج أهله منه وكُلَّ يوم وإلى اليوم يُقتل الأطفال هناك ويُشرَّدون،
ويُغتال الشباب، وتُبقر بطون النساء، ويُهتك عِرضنا، ويُغتصب شرفنا، وامعتصماه،
وتمتلىء الخيام باللاجئين، وتكتظ السجون بالمعتقلين، ولا نسمعكم، فإمَّا أصاب
أذاننا الصمم، وإمَّا أصاب بصيرتكم العمى، وإمَّا هكذا يريد حُكَّامكم والملوك
والسلاطين، أمَّا نحن فلنا الله فاتركوه لنا، فهل هو حوار مُقدَّس بمعنى أنَّهُ لا
يجوز أن نختلف فيه أو نخطئ؟، ولِمَ لا؟، ما الذي يمنع؟! أوَ ليس الاختلاف رحمة، إنَّ
الله لم يمنعنا حتى من أن نختلف عليه، وأعطانا مطلق الحرية كاملة، (فمَن شاء
فليؤمن، ومَن شاء فليكفر) فمَن ذا الذي يجرؤ أو يستطيع أن يمنعنا من مثل هذا الحوار؟!
إنَّ الإحساس الدائم بنقص التدين والتقصير دائمًا
وإن صح لدى الكثير، إنَّما هو ضِمْن مشاعر الدونية الدائمة والغالبة على تفكيرنا وإحساسنا
بأنفسنا في كُلِّ شيء، وفي كُلِّ الأحوال فلا يكون التعويض عنه بهذا الكهنوت
والالتزام الشكلي والتسليم والانسياق لكُلِّ من أبدى وأظهر وانفعل أنَّهُ أكثر
التزامًا، ولا يُمكن أن يكون التعويض عنه ولن يؤتي إلَّا بنتائج عكسية مجرد
الانفعال كرَدِّ فِعل عاطفي شكلي منفعل حرصًا وغيرة رُبَّما محمودة لو صادقة على
مستوى المشاعر والعواطف الإيمانية المطلوبة، لكنَّها ما لم تُترجَم إلى صِدْق
والتزام وسلوك ومواقف وانتصار فإنَّ مضارها أكثر من نفعها بكثير، ولا تعكس إلَّا استمرار
نفس صور التخلُّف والتمسك الشكلي والتبجح الفارغ مُنْبَت الصِّلة بالسلوك والتصرُّف
في كُلِّ موقف وفي الواقع.
ما الذي يمنعنا أن نُعلنها: إنَّنا لسنا على دين
آبائنا. وإنَّنا لم نعد نُفكِّر كما كانوا يُفكّرون في الجاهلية، وإنَّنا لم نعد
نعبد الأصنام، سواءً كانت من عجوى أو حجارة، أو أفكار متخلفة متحجرة متكررة في الرؤوس
وفي النفوس، وإنَّنا لم نعد نُشرك بالله شيئًا ، ولم نتخذ من دونه آلهة أو أندادًا
حُكَّامًا كانوا أو طغاة أو مُستعمِرين، أو رجال حُكم ومال وأعمال ودين.
وما زال هناك من يعبد بوذا ويعبد نفسه ويُقدِّس
هواه ويعبد الأبقار، فليس كُلُّ دين مُقدَّس هكذا في ذاته، ثمَّ إنَّ أيّ دين هذا
الذي يقبل أو يدعو أو يسمح باغتصاب الأرض وهَتْك العِرض، وتشريد الناس وطردهم من
بيوتهم وأراضيهم، وقتل أطفالهم وشبابهم وشيوخهم، واغتصاب نسائهم، وبقْر بطون
حواملهم، وسرقة واستنزاف أوطانهم وثرواتهم، ثمَّ نُقيم معهم السلام على جثثنا وعلى
حساب وجودنا ومصيرنا ومستقبلنا؟! أيّ دين هذا وذاك؟! دِين مَن هذا؟! مِن أين جاء!
ليس الدين منطقة حرام مُحرَّمة ولقد حرَّمتم
علينا كُلَّ معيشتنا، وأغلقتم علينا عقولنا وتخلفتم بنا وبأفكارنا. ثمَّ مَن ذا
الذي حوَّل سماحة الدين ولِينه ويُسْره وتقدُّمه إلى هذه الغِلظة والشِدَّة والعنف
والجمود والتخلف؟، من أين جاءتنا هذه الأفكار واستقرت في نفوسنا وتاريخنا؟! هل
يحمل الدين أيَّة مسؤولية عن كُلّ هذا؟ أمْ إنَّها مسؤولية عقولنا وطريقة تفكيرنا
وما استقرت عليه من تخلف وخرافات وغيبية وقدرية وجمود؟.
لمَن
الدين إذن؟ الدين لمَن؟ الدين لله
مَن الذي قال هذا؟ هكذا قالوا لنا!
يبدو أنَّ أحدًا ما كان يريد شيئًا ما، في ظرف
ما، فهكذا فكَّر وفسَّر وقال لنا واستقر في واقعنا ومفهومنا ورؤوسنا أنَّ الدين
لله، فهل لنا أن نُفكِّر، هل الدين لله؟ أمْ إنَّ الدين لنا، لكُلِّ الإنسان؟، مَن
الذي خلق الدين؟، ومَن الذي أرسله؟، ألم يرسله لمَن هو بحاجة إليه، لأنَّهُ سوف
ينبني على ذلك فارقًا كبيرًا في الرؤية وطريقة التفكير؟ ومن ثمَّ في السلوك والعمل
والنظرة والحياة، فالنفس أمَّارة بالسوء، والهوى له سلطان كبير على النفس، ولذلك
كان على الإنسان أن يمنع نفسه عن الهوى، (ونَفْسٍ وما سوَّاها، فألهمها فجورها
وتقواها)، وإنَّنا كثيرًا ما نخطئ ونتجاوز في الأوامر والنواهي، وأحيانًا الفروض،
وإيمانًا مِنَّا برحمة الله ومغفرته نطمع دائمًا في رحمة الله، إذ نتهاون على أمل
الهدى دائمًا والتوبة، وأنَّنا سوف نعود إلى طاعة الله، ولم نقصر شيئًا بعد إن شاء
الله، فطالما أنَّ الدين كذلك لله فلسوف تسري عليه نفس القاعدة، طالما أنَّهُ دائمًا
أمامنا الفرصة وأنَّ العواقب ليست حالة، إنَّما هي كذلك مُؤجَّلة، أمَّا إن كان
الدين مخلوقًا لنا ومُرسلًا لنا وبه تستقيم أحوالنا، ففي حال تركه والتهاون فيه وإهماله
والخطأ في تفسيره والتجاوز في تأويلة، فإنَّ العواقب حالة حاضرة، نحصد نتائجها فورًا
وبتوالى وقوع أو إتيان الأفعال، فلو أخذنا بأسباب التقدُّم والحضارة والرُّقي فسوف
نحصد وإلَّا فلا، مهما ادَّعينا وتبجَّحنا ورأينا على غير الحقيقة وانتظرنا، (وأن
ليس للإنسان إلَّا ما سعى).
ثمَّ مَن الذي كان دائمًا بحاجة إلى الدين؟، ألم
يظل الإنسان طوال حياته وتاريخه يبحث عن الله؟، هل الله بحاجة إلى ديننا أو تدُّيننا؟
أمْ نحن الذين بحاجة إليه وإلى أن نهتدي في حياتنا؟، ونجد إجابات لأسئلتنا،
وتفسيرات لوجودنا وخلقنا ورحيلنا ومَن سبقونا مِن أمم وحضارات، ومَن مِن بعدنا سوف
يلحق بنا حين نُستبدل، ثمَّ مَن الذي خلق الدين؟ ولمَن خلقه واختار رُسله وأرسله؟،
ألم يرسله لنا؟، ومَن شاء فليؤمن، ومَن آمن فليتفكر فيه ويتدبر ويُعمل عقله وإرادته
ويُعمِّر الكون، فيقيم الحضارة والعمران، وينشر المحبة والتسامح والإيمان
والاطمئنان والسعادة للإنسان، ويتقي الله، ويُقيم العدل، ويأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر والبغي والعدوان، وهكذا حسبما يفهم ويعي ويُفكّر ويؤمن، لمَّا جاء الدين لم
يُصدر أيَّ قرار، ولم تتغير طبيعة الخلق، ولم يلغِ العقل، ولم يتوقف التفكير، وإن
تغيرت طريقته، بل على العكس تمامًا فإنَّ مَن يأخذ بالأسباب وإن كان قد علمها عن الدين
أو من الدين وهو لم يؤمن فله ما أراد في الدنيا، أمَّا الآخرة فعلمها عند الله رَبِّ
كُلِّ الناس وكُلِّ العباد في كُلِّ الكون، والمؤمن له أسباب مضاعفة وعون إلهي لا شك
في ذلك، قد يصل إلى الإعجاز والمعجزات، وهذا ما يدركه المؤمن وحده إن هو أراد (إن يكن
مائة صابرة يغلبوا مائتين...) لكن بعد أن يعمل ويأخذ بالأسباب لينتصر فينصره الله
إنَّ الله عَدْلٌ عادل، أمَّا القاعدون فلم يُصلِّ عليهم رسول الله كما أمره رَبُّه،
اُنظرْ، نعم إلى هذا الحد، إنَّ الله لا يقبل عليك التفريط حتى ولو فرَّطت أنت في نفسك،
ولهذا أنزل الدين لك وأرسل الرُّسُل اليك ليعينك على الحياة، مخاطبًا عقلك وعِلمك
الذي علَّمك ولسوف يُعلِّمك ما لم تعلم أن ترِدْ ( اقرأ ). تستقيم حياتك تنعم
وتسعد تقوم بواجبك تحقق إنسانيتك وغايتك ورسالتك.
ليس الله بحاجة للدين، أنت الذي بحاجة دائمة
إليه، شئت أم أبيت، آمنت أو لم تؤمن، كُلُّ الوجود بكُلِّ ما فيه لله، هو خالقه
واستخلف الإنسان في الأرض وأرسل له رسله وكتبه وأتمَّ له الدين لهدايته وسعادته أن
يختار ويؤمن، فالحياة كُلُّها لله، وكُلُّ الخلق الذي خلق وكُلُّ الوجود الذي أوجد
وكُلُّ شيء يرُدُّه إليه يوم يرث الله الأرض وما عليها، وإنَّك أن تؤمن فإنَّك من
خلقه، يُحييك كما تختار أن تحيا ويُميتك متى شاء من بعد حياتك التي اخترت، وكُلٌّ
عائدٌ اليه. (قُلْ إنَّ صلاتي ونُسُكي ومَحْيَايَ ومَمَاتي لله رَبِّ العالمين)
وإن لم تختر هذا الدين، ولم تطلبه من الله وتسعى
إليه ويهديك له عاملًا به، مُحقِّقًا له، فالأمر لك أنت وما شئت، كما إنَّ الدين أُنزل
على رسله، مُرْسَلٌ إليك، هذه مشيئة الله، ولك ما شئت إلى أن ترد.
(مَن شاء فليؤمن، ومَن شاء فليكفر)
(لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد،
ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي
دين)
(اليوم أكملتُ لكُم دينكم)
ويحكم الله بينكم فيما كنتم فيه تختلفون.
إنَّما القداسة لله القُدُّوس وملائكته ورسله
وكتبه، ولا قداسة لرأي أو إنسان، ولا لأيِّ فرعون، مهما امتد في الفساد والطغيان،
ولا لأيِّ قارون أو هامان، ولا لأيِّ زمن من الأزمان.
فلا قداسة في أيّ حوار كان، لكنَّهُ مطلوب
مرغوب مقبول لازم، كُلّ الحوار والتفكر والتفكير وإنتاج الأفكار والاجتهاد
والاختلاف والقبول والاجتهاد والاستيلاد والبناء والأخذ والنبذ والترجيح والمرجوح
والمقبول والمعلول، كُلّ الحوار لا بُدَّ أن نوليه اهتمامنا ونشجعه وأبدًا لا
يمكننا أن نمنعه، ليس هناك ما يمنع من خطأ أو اختلاف، نقبل ونُصحِّح ونختلف ونلتقى
ونبني، والأمر شورى، ونتعلم من أخطائنا ونمضي، ونرتفع فوق بناءاتنا ونعلو، هل من
سبيل آخر؟، فلنسمح به ونسعى إليه ونحميه ونحوطه من كُلِّ قهر وعصف وعسف وتعسُّف. فلنتفق
على حدوده وشروطه ونلتزم نتائجه، وليسري في مجريات حياتنا بعلم وشورى وإرادة.
فليس الدين هو السبب.
لم يكُن الدين أبدًا، ولم يكُن الدين يومًا سببًا
في ذاته ولذاته، وإنَّما كيف تؤمن به وكيف تنظر إليه، كيف تتخذه سبيلًا لحياتك
لإعلاء شأنك وذاتك وإعلاء شأن الدين، كيف تُمكّنه أنت أن يكون وسيلتك وغايتك، يُمكنه
أن يكون كذلك إذا أردت لنفسك وبنفسك وأردت له وبه، ويمكن ألَّا تكون ولا يكون كذلك،
إن لم تُرِد، يبقى قائمًا، تعهَّد الله بحفظه يوم خلقه وأرسله إليك، ولم يتغير ولن
يتغير، الذي يمكن أن يتغير أو يتطور أو يتخلف أو يكفر أو يتبدل أو يستبدل إنَّما هو
أنت، أنت كيف تراه؟، كيف تتخذه؟، كيف تعمل به أو لا تعمل؟، ليس اسمًا ولا شعارًا
ولا تميمة ولا نشيدًا أو أغنية ولا لافتة ترفعها دون أن تستحق، ولن تسيء إليه، لن
تسيء إلَّا إلى نفسك، سواء كان من تخلفك وجهلك، أو من عدوانك وظلمك، أو بقبول
الظلم والعدوان والطغيان عليك.
كان الخضوع للسيطرة العثمانية طيلة أربعة قرون
أو يزيد تحت شعار الخلافة الإسلامية والتي لم تكُن إلَّا لافتة لم تعكس شرف اسمها
وقيمته، ولم يكُن ناتجها ونتاجها بعد هذه القرون من العزلة التي فُرضت علينا إلَّا
ذلك الركود الشامل الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بمعزل عن التطوُّر
التاريخي الحضاري للمجتمع الإنساني الذي استمر على نتاج حضارتنا العربية الإسلامية
وأنقاضها، إلى أن وصلت بنا مظاهر التخلُّف الحضاري إلى نهايتها، نظام إقطاعي قبَلي
يعتمد على جباية الضرائب، واستمرَّيْنا نحارب التطوُّر الفكري والحريات العامة
والتعليم إلى أن شاعت الأمية، وما زلنا من أكثر شعوب الأرض أمية وأقلها قراءة، وما
زلنا نحارب أيّ اتجاه للتحرر الفكري والسياسي منذ عُزلتنا عن العالم، ثمَّ اصطدامنا
بالحضارة الأوربية الحديثة، حيث جاء الاستعمار ليجهز على ما تبقى بالسيطرة
والاقتسام ونهب الثروات والخيرات والإبقاء عل التخلُّف وتعزيز التجزئة واستمرار
الجهل والتخلُّف والأمية، فانتشرت الأفكار اللامبالية والانهزامية، وتشجيع
الخرافات والأوهام واللاعلمية، وبرزت المظاهر الاجتماعية المتخلفة واللاأخلاقية
والانتهازية والوصولية والبيروقراطية.
أيمكن أن نظل هكذا وكأنَّهُ قدر محتوم لا يمكننا
الفكاك منه ولا الانفلات عنه والانعتاق إلى أن نتعفن في تخلفنا قانعين به وخانعين
في ذُلّه وهوانه؟، دُمًى قديمة متهالكة لا عقل لها ولا إرادة ولا رغبة في التغيير
والتطوُّر والتقدُّم؟! أيعقل ألَّا يخرج من صميم أمَّتنا جيل من شبابها تستغيث به
أن يرُدَّها من متاهتها فيخرج من الضياع يأخذ بيدها إلى حيث مكانتها ومكانها فيستحق
أن يرُدَّها إلى حقيقتها بعد سحقها، وقبل انهيارها واندثارها وزوالها!
جيل يعمل عقله ويستدعى إرادته وهِمَّته، يخلق
السؤال حيث يريد، يستخرجه في زمانه ومن مكانه، ويبحث يبدع الإجابات من جوف مكمنها،
ويستشرف ما تنتهي إليه من حيث انتهى العالم من حوله، يقرأ تاريخه وواقعه، حاضره
وواقع أمَّته ببصيرة واعية متجردة، يُفكر بوعي وعِلم وإدراك، ويُطلق العنان لخياله
وأحلامه وأفكاره، ويعمل في كدٍّ وجَدٍّ، ويبدع في الاجتهاد ليصنع مستقبله، وينتشل
نفسه وأمَّته من براثن الأوجاع وأفق الضياع، وينجو بنفسه من تفاصيل حياته المُذِلة
المُهينة المُؤلمة، ويضع النهاية حيث لا تبدو منتهية، ويشد مسافة جديدة، ويضع
فاصلة، ويبدأ من جديد على غير ما نحن عليه.
ألا كفانا تلك الإجابات الجاهزة المتهالكة
المستهلكة المتغربة، فإمَّا متغربة من حيث المكان باستيراد الأفكار والتجارب
والحلول من واقع غير واقعنا، ولمشاكل ليست مشاكلنا، وفلسفة وقيم لا تمُتُّ إلينا
بصِلة، وبمنظور ورؤى لا تنطبق علينا ولن تؤتى ثمارها معنا، وبتاريخية لا يمكن
تكرارها لا من حيث النشأة حيث قامت حضارتهم وتأسس اقتصادهم في مرحلة الاستعمار،
حيث كُنَّا من مستعمراتهم التي استنزفوها وربطوها بها بحيث تعيش عالة عليها سوق
كبيرة تعيش على مخلفاتها ونفاياتها أبدًا طالما هي منتصرة مُستمِرَّة، بحيث يصبح
تقليدها مستحيلًا من حيث الاستمرار، وإن أمكن دائمًا الفرز والاختيار وإعادة التبيئة والتعاطي مع منتجات العلم التي هي مِلك
للبشرية كلها ودائمًا والبناء عليها، دونما مسخ أو تغريب، فما قدَّمته الحضارة
الغربية ليس هو النموذج الوحيد ولا الأسمى ولا الأرقى، وكم من دول تفاعلت معها وفي
الطريق إلى تجاوزها، بينما حافظت على خصوصيتها وعلى قيمها وأصالتها في غضون سنوات
قليلة قياسًا بثباتنا العميق في قرون الجهالة والتخلُّف، وماثلة أمامنا النماذج
المتعددة في الصين واليابان وروسيا ودول شرق آسيا، وليسوا مِنَّا ببعيد، ولم
يتجاوز عُمْر تجاربهم ونهوضهم الحديث غير قرن من الزمان أقل قليلًا أو يزيد، مشكلة
الذين تغرَّبوا من حيث المكان أنَّهُم انبهرو بما قدمته الحضارة الغربية، وهو مبهر،
فعادوا ينظرون إلى واقعهم وإنَّما ليس بعيونهم، وانتقدوه إنَّما ليس بأفكارهم،
ويرون الداء على غير ما هو عليه، ومن ثمَّ قدَّموا لنا الحلول لا لمشكلاتنا وليس
من أدمغتهم وبنات أفكارهم، وإنَّما استوردوها وكأنَّما سلعة ضِمْنَ الآلاف من سِلعهم،
متناسين أنَّهُم هناك يروننا دائمًا ويتعاملون معنا كنعالهم!
إنَّ الصهيونية بالنسبة لنا هي خلاصة هذه
الحضارة، وعلى رأس إبداعاتها وفي المقدمة من أولوياتها، وإنَّ الصراع معها سيبقى
ويظل أبدًا طالما بقينا، ليس صراعًا على حدود سياسية لا وجود لها كما لا وجود لهُم
على هذه الأرض، ولن ينتهي بحُكَّام من أيّ نوع وصنف، كأن تُبرم اتفاقيات ومعاهدات
وتقيم علاقات وصداقات على أيَّة شاكلة ووصف، كُلُّها أمور زائلة متحركة متغيرة،
إنَّما الصراع صراع وجود وحضارات، وهُم يعرفون أنَّهُم لن تقوم لهُم قائمة بوجود
حضارتنا، فكيف لأولئك يرون النهوض عن طريقهم والأخذ بنموذجهم؟!
مَن تستمر حضارته وتنتصر فهو ها هُنا باقٍ، ومَن
تنهزم حضارته فهو إلى زوال، ولا يمكن لهما أن يزدوجا الوجود ذاته بحال من الأحوال حتى
وإن أصبحا في سِفاح ملتبسان.
أمَّا الذين تغرَّبوا من حيث الزمان فقد
استحضروا النموذج من أعماق الماضي، وكأنَّ الزمن قد توقَّف هناك، ولا سبيل أمامهم
إلَّا بعودته، وهو غير ممكن، ويستحيل أن يعود الزمن إلى الوراء، لا هُم نفس الناس،
ولا هي أفكارهم وأحلامهم وتطلعاتهم وطريقة عيشهم وحياتهم، ولا هي نفس المشكلات
والصراعات، ولا يمكن تكرار نفس الحلول والمواجهات في كُلِّ شيء، وفي الآلاف من
التفصيلات، وكما كان لهُم في الماضي طريقة تفكيرهم واجتهاداتهم ومواجهاتهم، أليس لكم
في زمنكم عقول مثلهم بنفس طبيعة خلقهم؟، لا بل زادوا على ذلك فأحاطوا وغلّفوا
رؤاهم وأفكارهم مكررة من الماضي بسياج من الدين، وذيَّلوا كُلَّ مقولة لهُم باسم
الإسلام، فالويل في الدنيا وفي الآخرة كذلك لمَن يختلف مع آرائهم! فالقداسة لهُم،
والتحريم على ما دونهم!
كيف يُفكّر البشر؟ وكيف أصبح يُفكِّر العرب؟
تاريخية التكوين وتداخُل الدين في النسيج منذ
نشأنا به أمَّة، جعل الدين متداخلًا في كُلِّ شيء وأيِّ شيء، وهذا ما جعل من
حضارتنا حضارة إنسانية بامتياز وقت نهضتها، الدين جزء من التكوين إلى أن أصبح جزءًا
من طريقة التفكير، وعلى هذا الحال كان دافعًا مُحفِّزًا، فكان العقل العربي مبدعًا
مبتكرًا خلّاقًا فاعلًا مُتطوِّرًا، إذ إنَّ طريقة التفكير كانت متحررة منفتحة عَبْرَ
الاستيعاب الصحيح والناضج للدين الذي فهم المضمون والغاية وأدرك الرسالة، فنجح في تحقيقها
منتصرًا مُنجِزًا لحضارته.
إنَّما كانت الإشكالية الكارثية التي طال أمدها
لما يزيد عن العشرة قرون الآن، أنَّهُ حين ضعف هذا الاستيعاب، وبدأت مظاهر الجمود
وعلامات التخلُّف، ولأنَّ العقل العربي يتداخل الدين في طريقة تفكيره، فراح يبحث
فيه عن تبرير لنكوصه، فأصبح هكذا شيئًا فشيئًا غيبيًّا قدريًّا إلى أن وصل لحَدِّ
الخرافات وانتظار المعجزات، وغلبته عقلية التبرير وتحميل غيره مسؤوليات فشله، إلى
أن أصبح الشيطان مسؤولًا عن كُلِّ معاصينا وأخطائنا، والاستعمار بالمؤامرة مسؤول
عن تخلّفنا وضعفنا، وبخلط التراث بالدين كذلك فأصبح كُلُّ تاريخنا مُقدَّسًا بما
فيه من فترات ظلام وتخلّف، وهي الأطول، فأصبح نتاجها أكبر وأشمل، فشمل التخلُّف
كُلَّ مناحي حياتنا، ولم يَعُد هناك من سبب لكُلِّ هذا بطريقة التفكير هذه، إلَّا الابتعاد
عن الدين أو عدم التمسُّك به!
فلا التمسُّك به على طريقتهم، ولا النأي عنه في حجَّتهم،
فالغرب مُتقدِّم ونحن نتَّبعه، لقد أخذ مِنَّا نتاج ما أنتجنا لمَّا كُنَّا نفهم ونستوعب
ونؤمن، لمَّا وصلنا بتفكيرنا واجتهادنا للتقدُّم حيث كان إيماننا يحثُّنا ونراه
يدفعنا، وإنَّما ليس شكلًا وادعاءً ورياءً وشعائر وطقوسًا، علمًا وفكرًا وفلسفة ومنطقًا
وثقافة وقوانين وسبْقًا وتقدُّمًا.
فالقرآن ليس كتابًا في الفيزياء أو الكيمياء،
القرآن لا نستخرج منه عقاقير ودواء، القرآن ليس كتابًا في الاقتصاد وليس كتابًا في
السياسة ونظريات الحُكم، ولا ينافسه العلماء، إنَّما يخشونه ويعجزون أمامه، ولا
يمكنها أن تنافسه كُلُّ نظريات وعلوم البشر والدنيا والعالم والوجود، ولا يُمكن أن
نقحمه بينهم إلَّا تزكية جاهلة، فلا مجال ولا سبيل لأي نوع أو باب للمقارنة. ولا يُمكن
أن توجد إن كنتم تعلمون أو تؤمنون، وإن كنتم وبحق تؤمنون فقدِّموا وتقدَّموا
بعقولكم التي خلق الله لكم في كُلِّ المجالات، وكُلِّ العلوم وفي الفكر والفلسفة
والثقافة وكُلِّ الفنون، وقدّموا النموذج للبشرية تفاعلًا مع كُلِّ الحضارات الإنسانية،
وإنَّما من جديد.
كتاب الله الذي ليس كمثله شيء، ليس كمثله شيء. كتاب
الأسس والقيم والمبادىء الكلية الجامعة المانعة، نسق جامع مانع كامل لحياة الهداية
والاستقامة والسعادة وحُسْن الحياة وحُسْن الخلق وأعظم القيم وأقوم الطرُق، أسلوب
حياة وتقوى ومرساة نجاة، وسعادة كاملة في الدارين، ألمْ يكُن نبي الله صلى الله عليه
وسلم الخاتم للإنسانية قرآنًا يمشي عل الأرض، ألم يقُلْ للناس يُعلّمهم ويُفوِّضهم
(أنتم أعلم بأمور دنياكم)؟ ألم يقُلْ لهُم اطلبوا العلم ولو في أبعد مكان؟، والعلم
لا ينتهي ولا حدود له، إنَّما الأمم التي لا تسعى إلى العلم ولا تأخذ منه وبه هي
التي تنتهي، (اتقوا الله ويُعلّمكم الله) إنَّ استمرار هذا الخلط هكذا باطلًا مُدَّعِيًا
الحق تجاوز كونه قيد على تحرُّر العقل العربي وحريته في التفكير إلى إرهاب يمنعه
من تجاوز حدود الماضي إلَّا بالمعجزات أو بالقدر أو الخرافات الغيبية، أو بمجرد
الاكتفاء بالدعاء حتى التضرُّع دونما سعْيٌ يُذكر، وفي أفضل أحوال التخلُّف يظل
ساكنًا جامدًا سلبيًّا ينتظر القائد المُخلِّص الفرد الذي رُبَّما يستطيع أن يتجاوز
كُلَّ هذه القرون أو بعضًا منها!
مَن ذا الذي يعرف إلى متى يمكن أن يستمر حالنا هكذا ؟، ومتى يمكن أن ينتهي ما نحن عليه وما نحن
فيه؟، ومَن ذا الذي يُمكن أن يضع له حَدًّا؟ ومتى وكيف؟!
مِن فوق كُلِّ المنابر ومن ضجيج كُلِّ المحافل،
قدِّموا لنا شيئًا آخر، قولوا لنا شيئًا آخر؟
فمَن يتحمَّل المسؤولية؟1
مسؤولية الجهل والتخلُّف والأمية، وحالنا من الانقياد
والتبعية، وانتصار وهيمنة الصهيونية، والانهزام والاستسلام والدونية، مَن المسؤول
عن إهدار التاريخ وفشل الحاضر وضياع المستقبل؟، مَن المسؤول عن هذه الضآلة
والضحالة والصغار؟، وفي كُلّ مجال وعلى أيّ حال، لسنا نكرة في هذا الوجود بعدما
كُنَّا، ويجب علينا أن نكون ونسود، مَن المسؤول عن كُلّ هذا الضياع والآلام
والأوجاع؟، عن الفقر والمرض دون حيلة وقد أعيتنا كُلُّ وسيلة؟، عن العوز والحاجة
والفاقة والهَمِّ والغَمِّ في كُلِّ تفاصيل حياتنا؟ حيث لا منفذ لنا ولا متنفس غير
السخرية، نسخر من واقعنا وحالنا وعجزنا وكُلِّ شيء كُلِّ شيء، نموت ببطء شديد،
نموت قهرًا وذُلًّا، نموت موتًا مُرًّا، نموت أحياءً، ونحب الحياة ولا نحياها،
ونتمناها ولا تأتي، ولا نصل إليها، ولا نصل إلى أيّ شيء، مَن المسؤول؟!
حَدِّثونا يومًا عن الحياة حيث إنَّها هي الطريق
إلى الآخرة، عن مكان ومكانة لنا فيها، وأنَّ الله لم يخلقنا ليُعذّبنا أو يُشقينا،
وأنَّهُ لا يقبل لنا هذا الذل والشقاء والعبودية والتخلف والمهانة، نعرف الآخرة،
حفظناها عنكم ومن أحاديثكم المُكرَّرة، عرفنا الخوف وعِشنا كُلَّ صنوف وألوان
العذاب، ألا تعرفون حديثًا أو طريقًا للنجاة، أو تظننوكم الناجون، جُبِلنا على
الطاعة والولاء والطاعة العمياء، ولا نعرف لماذا لا تكون مُبصرة! حدِّثونا عن
الحاكم، وكيف يجب أن يكون أولي الأمر مِنَّا، أو حَدِّثوه يومًا عَنَّا، قولوا له
إنَّ الظلم حرام وإنَّ الفقر حرام وإنَّ الجهل والمرض والتخلُّف حرام فوق حرام فوق
حرام، قولوا له إنَّ الله خلق الناس أحرارًا فلاتحبسهم ولا تظلمهم ولا تعتقلهم، علّموه
أنَّ التقدُّم والرِّفعة وعُلو الشأن في حال أمَّتنا فرائض، وأنَّ الذل والهوان
والانكسار جُبْن وهزيمة وجريمة وفاحشة ورذيلة، علّموه أنَّ الكرامة عِزٌّ، وأنَّنا
أمَّة لا يمكنها أن تحيا إلَّا كريمة عزيزة، حَدِّثونا عن الجهاد، عَلِّمونا وتعلَّموا
أنَّ الأقصى لن يعود بالدعاء، وأنَّ استلاب الأقصى واحتلال القدس وكُلِّ فلسطين،
وضياع كُلِّ شِبْر من أرضنا العربية إنَّما هو انتقاص من كرامتنا ووجودنا، وانكسار
لهيبتنا ونفوسنا، وذُلٌّ لأجيالنا وهوان لن يُقيم لهُم قائمة، تذكَّروا أنَّ في كتاب
الله ما يفرض علينا القتال، وأنَّ الله أمر رسوله أن حرِّض المؤمنين على القتال،
وأنَّهُ كُتِبَ عليكم وهو كُرْهٌ لكم، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم، وعسى أن
تحِبُّوا شيئًا وهو شَرٌّ لكم، فقاتلوا الذين أخرجوكم من دياركم، أين ذهبت آيات
الجهاد بالنفس والمال؟، أين ذهبت فريضة الجهاد؟، وأين فضل الشهادة والاستشهاد؟، وأنَّ
الله لا يحب الفساد، أين ذهبت آيات العدل والقِسط؟، وسيرة العدل، وتاريخ العدل
وتراث العدل ورجال العدل وحُكَّام العدل؟، لماذا لم نعد نسمع (إنَّ أعظم الجهاد
عند الله كلمة حق تُقال عند سلطان جائر)؟ أين ذهبت آيات الاستخلاف في الأرض،
وكوننا خلائف مستخلفين فيها؟، أين الرسالة التي رفضتها السموات والأرض والجبال
وحملها الإنسان؟، أين الرسالة؟، بل أين الإنسان؟! إلى هذا الحد تغيَّر المنهج وتشوَّه
المُقرَّر، أو تمَّ حذف كُلِّ هذا من المُقرَّر وتمَّ الإبقاء فقط على أبواب
القناعة والرِّضا وفصول التسليم والقبول، ومباحث طاعة أولي الأمر!
لا تُحدِّثونا عن القناعة والرِّضا والصبر
اسألوا الفقراء، مَن الذي أفقرهم؟، لا تقولوا لهُم
إنَّها أقدارهم هكذا! حَدِّثوهم عَمَّا قاله علي بن أبي طالب (عجبت لمَن لا
يجد قوت يومه ولا يخرج على الناس شاهرًا سيفه)، حَدِّثوهم عن سيف العِزَّة وسيف
المُعِز، وأنَّ الله لا يرضى لهُم الذُّل.
أيُّها الفقراء أنتم الذين اخترتم!
ثرواتكم تُنهب من بين أيديكم وتحت أرجلكم،
أنتم الذين اخترتم.
أيُّها المظلومون أنتم باختياركم ظالمو
أنفسكم.
أيُّها الحبناء القاعدون مع الخوالف، لماذا
تقاعستم؟، ما الذي يُقعدكم؟! وهل أنتم
هكذا سعداء سالمون، هل أنتم فيها خالدون؟!
أيُّها الجهلاء المتخلفون، كُلُّ ما أنتم فيه
وما أصبحتم من خزي عليه إنَّما هو قراركم واختياركم، وهذا ما ترضونه سبيلًا
لحياتكم كما العدم!
أيُّها المؤمنون، مَن كان يؤمن بالله فليقُلْ
خيرًا أو ليصمُت.
فلا تُحدِّثونا مُجدَّدًا بطريقتكم عن
القناعة والرِّضا والصبر، لقد صبرنا كثيرًا عليكم.
كفاكم بالله، سيحاسبكم الله ولسوف يحاسبنا إذ
نتبعكم.
هذا كتاب الله كتاب الهداية للعالمين.
(اهدنا الصراط المستقيم).
(ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدًى للمتقين).
هذا كتاب الحياة، كتاب استخلاف الإنسان على
الأرض.
(إذ قال رَبُّك للملائكة إنِّي جاعلٌ في الأرض
خليفة قالوا أتجعل فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نُسبِّحُ بحمدك ونُقدِّسُ
لك، قال إنِّي أعلم ما لا تعلمون).
ولا سبيل ولا إيمان إلَّا بحُسْن الحياة
والأخلاق، وحُسْن الدعوة والكلمة
(......
وقولوا للناس حُسْنا...... ) ( البقرة 83 )
هذا كتاب الاجتهاد، وحُسْن العمل سبيل رضوان
الله في الآخرة، هذا هو المعيار في الدنيا، وإذ نختلف فليس هناك صكوك ولا أفضلية
من ظنِّكم مِمَّا تظنُّون أنَّكم عليه، فالحُكم لله إنَّما في الآخرة.
(وقالوا لن يدخل الجنة إلَّا مَن كان هُودًا
أو نصارى تلك أمانيُّهم قُلْ هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )* ( 111 البقرة ) (بلى مَن أسلم وجهه لله وهو مُحْسِنٌ فله
أجره عند رَبِّهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون) * (112البقرة ) (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت
النصارى ليست اليهود على شيء، وهُم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل
قولهم، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (112البقرة )
هذا كتاب المسؤولية، إنَّما تتحملون
مسؤوليتكم أنتم؟
(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ماكسبتم
ولا تُسئلون عمَّا كانوا يعملون) ( 141 البقرة )
(ولا تقولوا لمَن يُقتل في سبيل الله أموات
بل أحياء ولكن لا تشعرون) ( 154 البقرة )
(وإذا قيل لهُم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل
نتبع ما ألفينا عليه أباءنا أوَ لو كان أباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون) ( 170 ) س البقرة
(وقاتِلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا
تعتدوا إنَّ الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث
أخرجوكم والفتنة أشدُّ من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه
فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين * فإنَّ انتهوا فإنَّ الله غفورٌ رحيمٌ *
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلَّا على
الظالمين * الشهر الحرام بالشهر الحرام والحُرُمَاتُ قصاصٌ فمَن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله إنَّ الله مع المُتَّقين) ( 190 – 194 البقرة )
(كُتِبَ عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم وعسى أن
تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحِبُّوا شيئًا وهو شَرٌّ لكم والله يعلم وأنتم
لا تعلمون) ( 216 البقرة )
(لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرُّشد من
الغيِّ فمَن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها
والله سميعٌ عليم) 256) البقرة
(ليس عليك هداهم ولكنَّ الله يهدي مَن يشاء
وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفسكم وما تنفقون إلَّا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خيرٍ
يوفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون) 272 البقرة
(...... ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها
فإنَّهُ آثمٌ قلبه والله بما تعملون عليم) 283 س البقرة
(إنَّ الذين يكفرون بالله ويقتلون النبيِّين
بغير الحق ويقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط من الناس فبشِّرْهم بعذابٍ أليم) 21 س آل عمران
(ومَن يبتغ غير الإسلام دِينًا فلن يُقبل منه
وهو في الآخرة من الخاسرين) (85 س آل عمران )
(واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا واذكروا
نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا وكنتم
على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها كذلك يُبيِّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون *
ولتكُنْ منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك
هُم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيِّنات
وأولئك لهُم عذابٌ عظيم) 103-105 س آل عمران
(كنتم خير أمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهلُ الكتاب لكان خيرًا لهُم
منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) 110 س آل عمران
( 136 – 140 ) س آل عمران
( 166 – 170 ) س آل عمران
(إنَّ الله يأمركم أن تؤدُّوا الأمانات إلى أهلها
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إنَّ الله نِعِمَّا يعظكم به إنَّ الله كان
سميعًا بصيرًا)58 س النساء
( 74- 78 ) س النساء
( 84 ) س النساء
( 95 – 100 ) س النساء
( 143 ) النساء
( 22 – 24 ) المائدة
( 99 ) المائدة
( 104 ) المائدة
( 81 ) س الأنعام
( 116) الأنعام
( 165 ) الأنعام
( 28 ) الأعراف
( 51 ) الأعراف
( 179 ) الأنعام
( 39 ) الأنفال
( 46 ) الأنفال
(65) الأنفال
( 12 – 13 ) التوبة
(20) التوبة
(36) التوبة
(38) التوبة
( 14 ) س يونس
(41 -43) يونس
99 يونس
108 يونس
2 هود
11 الرعد
8 الكهف
102 -104 الكهف
42 – 43 مريم 24 -29 طه
42 -43 طه
79 طه
89
94 طه
52 54 الأنبياء
40 -41 الحج
فإنَّ حالنا هكذا لا يُرضي الله ولا يرضاه
الله لنا، ولم يخلقنا الله هكذا. خلقنا ليستخلفنا (إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة)،
وقال لملائكته عنَّا إنِّي أعلم ما لا تعلمون، وعلَّم آدم أي علَّمنا، فهل عَلِمْنا؟،
فهل تعلَّمنا؟، فهل نعلم؟ كيف نُفكِّر؟ وكيف يكون الاستخلاف؟، ماذا نخاف أو نخشى
من بعد ذلك إلَّا الجهل والجمود والقعود والتخلُّف؟، فيمَ تختلفون؟ وعلام تختلفون؟
ولماذ لا تبحثون إلَّا عن الخلاف والاختلاف والشقاق دائمًا وإنَّما في توافه
الأمور والاختلاف في كُلّ كلمة وفي شيطان التفاصيل؟، ما الذي يجمعنا وهو كثير؟، ما
الذي يمكن أن يجمعنا ونجتمع من حوله وما أكثره وأنتم تعلمون؟، فلننظر في تجاويف
رؤوسنا، فلنُعمل عقولنا، فلنبحث في طريقة التفكير.
كيف تُفكّر؟!
كيف تُفكّر؟!
فى حقيقة الأمر، فإنَّهُ لست أنت الذي تُفكّر! ولتحرِّي
الدقة، فإنَّك لا تُفكِّر بعقلك أنت! وإنَّك وإن تُفكِّر فأنت مُكبَّل مُقيَّد
سجين!
إنَّك منذ تنشأ تتعرَّض في كُلّ ما حولك لهذا الكم
الكبير والمتزايد دائمًا من الضغوط المجتمعية والسياسية والإعلامية تستمر معك في مختلف
المراحل، وبطرق شتى متعددة تقتل فيك شيئًا فشيئًا روح التفتح والاستقلال والإبداع
وتستلب منك جزءًا فجزءًا روح المرح ومشاعر السعادة، وتُضعف عبر المراحل وبازدياد من
قدرتك الخلَّاقة، ولأنَّ هذه كذلك هي مكونات البيئة من حولك تتفاعل معها باستمرار
محشوًّا بتراثها ومشكلاتها وتفاصيلها وطريقة تفكيرها وبالاستمرار الحياتي العام، يتشكل
عقلك سجينًا لها ولكُلِّ قيودها وسُلطاتها المتعددة، ذاتية كانت أو خارجية، ثقافية
ودينية ومجتمعية وسياسية، بتفاعلها جميعًا وتفاعلك معها، وتناوُل عقلك وتفكيرك لها،
فينتج ذلك أثره كُلّه فيك، في طريقة التفكير ومن ثمَّ في السلوك وفي التصرف، وفي نظرتك
للأمور، وفيما تأتي أو لا تأتي من أفعال إرادية أو اعتيادية أو جبرية، فأنت منذ
البداية وباستمرار سجين النظام الأبوي المتوارث منذ القِدَم، كما أنَّك سجين الماضي
الذي يصاحبك دائمًا والذي قد يسبقك إلى مستقبلك، وسجين سلفه الصالح خلف كُلّ هذه
القرون، وسجين خلافاته كذلك ومشكلاته التي لا تنقطع عنك، وسجين القهر السياسي المتوارث
لما يزيد كثيرًا عن الألف عام من خلافات فاسدة وحُكم مملوكي وعثماني، ثمَّ وأكثر
من ذلك سُلطة الاستعمار التي اقتربت من قرن من الزمان وبصور وأشكال أخرى تستمر،
وسجين سُلطات حُكَّامك القاهرة بكُلِّ زيفهم واستبدادهم مدى حياتهم لا يتزحزحون،
وسجين ذلك التمزُّق والتفسُّخ بين عالمك ومجتمعك الثابت الجامد المتخلف، وبين هذا
العالم الآخر هنالك بكُلِّ ما فيه من إبهار، مصحوبًا بتاريخ وأفكار وقيم وأخلاق
مناقضة، سجين متاهات لا نهائية وضياع تراه محتومًا، واحتياجات وحاجات وتطلعات لا
تستطيع تلبيتها أو الوفاء بها، تقبع خلف قضبان وزنازين القهر الاجتماعي والسياسي
محشورًا داخل أغلال ذاتك وقهر الآخر من حولك أو من فوقك، أوذلك الذي هناك رُبَّما بعيد
عنك وقد يسكن فيك.
أنت تُفكِّر إذن بهذا العقل السجين في هذه
البيئة الراكدة الآسنة، فماذا تتوقع أن تنتج غير المزيد من تكرار التكرار واتباع
الأتباع، حيث يكبر عقل البيئة ويزداد إنَّما في الحجم، إذ أنَّهُ يبتلع عقلك داخله
ويحتويه كما كُلّ العقول التي تنصاع له وتستسلم، فيصبح وكأنَّهُ آلة كبيرة تعمل
هكذا آليًّا، وتُعيد نفسها وإنتاجها من الركود والجمود والثبات والتخلُّف، وإن أنت
حينذاك إلَّا ترس صغر أو كبر ضِمْن مُكوِّنات هذه الآلة المعاقة!
إلَّا
أن تفك قيودك وتُحرِّر نفسك وتجد لنفسك مهربًا أو مَخْرَجًا فتنعم بالحرية،
فالحرية أوَّلًا وقبل كُلِّ شيء، وإلَّا فلن يصدر حُكمًا أبدًا ببراءتك ولن تنال
حريتك، ستظل مدانًا مدينًا بهذا التخلُّف أبدًا أمام نفسك وذاتك، لن تصل أبدًا لأمل
ترجو أو مستقبل تريد، مُكبَّلًا بكُلِّ هذه القيود، وستظل مدانًا مدينًا أمام كُلّ
الأجيال من بعدك إن أورثتهم هذا الحال، وستظل مدانًا وتقف مدينًا يوم الدين، فكيف
يمكنك أن تجادل عن نفسك؟!
أهذا الذي فيه استخلفتك؟!
إنَّهُ أن يتحرر عقلك فتُفكّر فيه قبل أن تفكِّر
به، فتنعتق هكذا من عقل البيئة الذي تشكَّل هناك وأدخلك في دائرته، فأصبحت تُفكِّر
كما يُفكِّرون، وتعيد معهم إنتاج ما ينتجون من أفكار مُتكرِّرة، لأنَّك حينها
تُفكِّر في أمور خارجة عن ذاتك، فهي موضوع التفكير والتناول، فتُفكِّر فيها بتلك
المفاهيم والأفكار في عقلك والتي هي منتج البيئة وحاصل تفاعلك معها قانعًا أو ساخطًا،
فمهما كانت الاختلافات فهي في نفس إطار طريقة تفكير البيئة ذاتها، أمَّا أن يكون
عقلك هو موضوع التفكير فإنَّك هكذا تُفكِّر في العقل ذاته، والذي هو أداة التفكير،
ولكنَّهُ في ذات الوقت هو مادة التفكير وموضوعها، وحينذاك يمكن أن يكون الإنتاج
والناتج مختلفًا عمَّا تنتجه البيئة مُكرّرًا، أي أن تفكِّر في تلك المفاهيم
والأفكار التي عليها عقلك لا أن تدع عقلك يُفكِّر بمفاهيمه التي شكّلتها البيئة
غالبًا وباستمرار، وهكذا كما أوضحنا حيث كان الناس دائمًا على دين آبائهم إلى أن جاءهم
إبراهيم عليه السلام يُفكّر في عقله وتفكيره وبطريقته على غير الطريقة التي كانت
عليها البيئة دائمًا، وعليه فإنَّهُ قبل نقد واقعنا وأوضاعنا، فإنَّهُ علينا نقد
طريقة تفكيرنا ورؤيتنا لأسباب ما نحن فيه وما أوصلنا إليه، لأنَّهُ كثيرًا ما نكون
قد أوصلنا أنفسنا بأنفسنا إليه، لأنَّ هذا العقل العربي الذي تعرَّض كثيرًا للقهر
على مَرِّ العصور والقرون أصبح ماضويًّا سلفيًّا خاضعًا خانعًا تابعًا مُقلّدًا مُردِّدًا،
فإنَّ أوَّل التباشير التي يمكن حصادها بعد تحرير العقل العربي هي الإقرار
والاعتراف والمواجهة ومصارحة الذات وكشف الحقيقة أيًّا كانت مرارتها ومهما كانت حِدَّتها
أو قسوتها، وإدراك هذا الواقع والاعتراف بهذا القدر المخيف من التخلُّف، وما وصلنا
إليه من عجز وجمود لهو بداية الطريق الصحيح للمواجهة الصحيحة المنجزة.
كثيرًا كانت المحاولات، لكنَّها غالبًا ما لا
تخرج عن ذلك الإطار المتكرر. داخل نفس حدود طريقة التفكير لا تستطيع التجاوز أو
الخروج، فترى الذين يُقدِّمون أنفسهم كحلول أو بدائل إن هُم إلَّا نُسَخًا مُكرَّرة
ولو بطرُق أخرى مشابهة أو مناقضة إنَّما تصل لذات النتائج.
وليس من قبيل الإنصاف أو الاعتزاز بحركة هُنا أو
محاولة هناك، إذ أنَّهُ أمر طبيعى ومن فطرة الإنسان والعقل البشري أن يسعى دائمًا إلى
التطوُّر والتقدُّم وتحسين وتيسير أحواله، فمن المؤكد حتمًا أنَّهُ لم تخلُ هذه
القرون الطوال من التخلُّف من محاولات كثيرة ومتعددة للفكاك منه والنهوض، وكُلُّها
محاولات معتبرة، إذ يكفيها شرف المحاولة وعدم الاستجابة للسكونية والجمود والتخلُّف،
ومحاولة تحريك المجتمع للأمام، عَلَّه إذا تحرَّك يستمر ويصل لمرحلة الصعود
والنهوض، وإنَّما حيث لم تنجح أيٌّ من هذه المحاولات في استعادة نهضتنا وبناء
حضارتنا وخروجنا من هذا التخلُّف المزمن وانقطاع حضارتنا طيلة هذا الزمن فهو أمر
لا بُدَّ من التوقف عنده وبحث وغَوْر أسبابه.
لأنَّهُ بقدر ما أنجزنا من حضارة عظيمة في الماضي
سحقت كُلَّ أعدائها وتقدَّمت وقدَّمت النموذج الأرقى في البشرية، بقدر ما إنَّ عدونا
استوحش مُستوعبًا مُدركًا ما كُنَّا عليه حينذاك البعيد هناك، فأصبح حريصًا دؤوبًا
مُنتبهًا مُصِرًّا يعرف طريقه فينا ومِنَّا وبنا إلى هزيمتنا دائمًا، مُمعِنًا
باستمرار في الحيلولة بيننا وبين النهوض من جديد، وعلى هذا فإنَّهُ من بعد انقطاع حضارتنا،
فإنَّ التخلُّف الذي نعانيه طويلًا يجد دائمًا مَن يخلقه ويعيد خلقه ويدعمه ويغذيه
ويؤججه، ويسعى باستمرار على استمرار التخلُّف والقضاء على أيَّة محاولة ممكنة أو
محتملة للنهوض، و دائمًا ما تتضافر وتتآزر عوامل الانهيار داخليًّا وخارجيًّا، فالاستعمار
ونهب الأرض وثرواتها، واختراق كيانها وإذلال شعبها، والحرص على تجزئتها والحيلولة
دون وحدتها، والإبقاء على تخلفها، ومنع وصول العلم والتكنولوجيا إليها، وإشعال
الصراعات واذكائها بين أطرافها ومكوناتها، واستحما ر العملاء من قادتها ونخبها
وسياسييها زعماء وقادة وشيوخ وحُكَّام وحكماء ومثقفين سلفيين ومتغربين داخل وعاء
متنوع متعدد محكم من الفقر والجهل والمرض والأمية، فتتزايد الفجوة الحضارية بيننا
وبينه وتتسع اتساعا هائلا بحيث لا نستطيع مواكبته، ولم يمكن من سبيل للاستغناء عنه
بل والتبعية الكاملة له سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وعلميًّا دونما أدنى إسهام
أو مشاركة أو إضافة أو نقد، وإنَّما ازدياد التخلُّف والانسحاق والعودة دائمًا إلى
الوراء، والاختباء في الماضي، أو السكون والجمود في الحاضر، أو اللهاث خلفه دائمًا
دون جدوى.
إنَّ عدوَّنا بما توصَّل إليه من استمرار هذه
الهيمنة الشاملة يظن أنَّهُ يضمن بهذا دائمًا ومستقبلًا ألَّا تقوم لأمَّة العرب
قائمة بما لا يُعرِّض مصالحه واستمرار انتصار حضارته للخطر الذي يعلمه، وهو بالتالي يضمن حماية وجود الكيان الصهيوني وبقاءه
المزروع في القلب من وطننا تحقيقًا لذات الغرض سببًا ونتيجة، ومن ثمَّ تحقيق أهدافه
في استمرار تخلُّفنا وتقزُّمنا واستمرار تجزئتنا وتفتُّتنا ومنع أيَّة صورة ممكنة
أو محتملة لوحدتنا وتقدُّمنا.
صحيح أنَّ واقعنا الآن لا يبعث على التفاؤل،
ونحن هكذا نعاني وبشكل غير مسبوق من التقزم والتمزُّق والتشرزم والفساد والاستبداد،
والتفسُّخ المقلق المخيف والمفزع الذي يجتاح أجيالنا الصغيرة الجديدة، تحت مظلة
مهترئة بالية من التخلُّف والفقر والجهل والمرض والأمية، وإنَّما تبقى القضية دائمًا
هي كيف أنَّنا يمكن أن نرى كُلّ هذا مُقرِّين به نواجه به أنفسنا بحقيقته، ونصل
لأسبابه، ونصل لطريقة مواجهته وتغييره لما نريد وكيف نريد. فلا نزيح موقفنا من
الواقع جانبًا، ولا نُسقطه من الحساب، ونكتفي بالنقل على السواء من القدماء أو
المحدثين، فيغيب إذ نُغيِّب التنظير المباشر للواقع ولا يمكننا التعامل معه. فلم
يَعُد الانعزال ممكنًا، ولم يصبح الانكفاء واردًا في هذا العالم الذي أصبح أنَّهُ يبدو
واحدًا متصلًا دائمًا متواصلًا.
ليبراليًّا كان، قديمًا أو جديدًا، أو سلفيًّا
من أيِّ عصر، أو قوميًّا كان أو ماركسيًّا، كُلٌّ يرى الواقع ومشكلاته وتحدياته
ومن ثمَّ طريقة تغييره ومواجهته وحلوله بالطريقة التي يصورها له فكره المسبق الذي شكلّه
أو كوَّنه أو انتمى إليه، لا بالصورة التي عليها الواقع بالفعل اللهم إلَّا في جزء
من أجزائه أو مُكوِّن من مكوناته، بل وقد يذهب لتطويع الواقع ليراه بذات عيون وعيوب
أفكاره التقليدية الجاهزة، إمَّا متوارثة أو مستوردة، فإمَّا نرى مشكلاتنا بعين الماضي
وفكر السلف وإمَّا بعين الأخر وفكر وفلسفة الغرب وكليهما معًا أصبحا يُشكّلان عقل
البيئة دائمًا، نتاج نفس طريقة تفكير بيئة التفكير والتي تصل لنفس النتائج في كُلِّ
محاولة وكُلِّ مواجهة، فلا الرجوع إلى الماضي بعقل مُكرَّس للماضي، ولا الارتكان
إلى الحاضر بعقل مشدوه مشدود بمجتمع أجنبى آخر يمكنهما معًا إنجاز شيء، إنَّهما
يرون واقعًا غير واقعنا الذي نعيش بكُلِّ تفاصيله ومشكلاته وآلامه وآماله. وهذا ما
ينتجه باستمرار عقل البيئة بالاعتياد عليه والتمسُّك به، أليس منطقيًّا أنَّ فلسفة
ومعايير ومبادىء كانت سائدة في حضارتنا منذ القدم أن تكون قد وضعت لهذا الزمان
هناك، وأنَّنا بحاجة في زماننا هذا ولدينا نفس العقول ونفس القدرة على البحث
والاجتهاد وإبداع ما يناسبنا وما نحتاج إليه وفق ظروفنا وأحوالنا وطموحاتنا الآن،
ومن باب أولى فالأمر كذلك بالنسبة للمعايير والمبادىء التي تسود حضارات أخرى وواقع
آخر غير واقعنا، كُلُّ ما علينا أن نعرف ما نحن عليه، وما نحن بحاجة إليه، ونعمل
عقولنا تفاعلًا واستيعابًا، وبالاجتهاد والإبداع نصل إلى طرائقنا وما نصبو إليه، فدائمًا
ما يكون الاجترار أو التكرار أو التقليد وإعادة الإنتاج أكثر رداءة، فمنتج أجدادنا
كان تحت صراعات العصور التي عاشوها وفي حدود مختلف إمكاناتهم حينذاك، فلماذا نظل
سجناء طرائقهم لننخرط دونما شعور في صراعات الماضي ومشاكله، ويكون حاضرنا مشغولًا
بمشاكل ماضينا، ومن ثمَّ يكون مستقبلنا بتوجيه من مشاكل الماضي وصراعاته وطريقة
تفكيره ومواجهته، والأمر أكثر دهشة وعجبًا في حال محاولة التقليد أو الاستنساخ من
واقع آخر لمجتمع آخر بتاريخ وتكوين ونشأة أخرى وحضارة مغايرة! فلا هذا ممكن ولا
هذا جائز، لكن هذا وذاك ما تظل بيئة التفكير محشوة به، تعيد إنتاجه كلما ألحَّ
السؤال، فلقد أصبح هذا هو عقل هذه البيئة يعيد إنتاج نفسه بتكرار وباستمرار!
إنَّ استمرار الدوران في متاهات هذه الدائرة
المفرغة المغلقة من إعادة إنتاج التخلُّف
الحضاري الموروث والمتجذر في العمق العربي فرديًّا وجماعيًّا سيظل مسؤولًا عن أيَّة
انتكاسة لأيَّ محاولة للنهوض وسيُفشل أيَّة محاولة للثورة أو التغيير ما لم تتحرر
وتتغير طريقة التفكير، إذ بتحرير العقل العربي سيتمكن الإنسان العربي من حريته.
هنا منذ أكثر من نصف قرن أو يزيد كانت قد قامت
في بلادنا ثورة، بينما كان العالم الاستعماري في طريقه إلى رسم صورة جديدة، ولم نكُن
نشكل شيئًا يخشاه في حساباته وترتيب أوضاعه بعد ما كان قد قسَّمنا واقتسم مِنَّا غنائمه
وراح يرعانا غنمه ويحلبه، وكُنَّا حينئذ ضِمْنَ أوراقهم الرابحة في لعبة التوازنات
الدولية وإعادة رسم موازين القوى حيث يلوح اقتراب أفول الفرنسيين والانجليز وبروز
الأمريكان والسوفيت كأقطاب عالمية جديدة تتقاسم النفوذ والهيمنة، ففي ظل هذا المناخ
يتهيأ له العالم وصورة رُبَّما آخذة تتوضح ملامحها ومعالمها، كان خروج جمال عبد
الناصر من القاهرة في القلب من وطننا في هذا التوقيت من الزمان وفي هذا الموقع في مركز
العالم بما في ذاته من عبقرية المكان، وكان كما كان قد قال إنَّ هناك دورًا هامًّا
يبحث عمَّن يقوم به ويتصدى له، فقد كان ظهورًا مفاجئًا مباغتًا أربك الحسابات
وتعامل مع التوازنات، وجعل لنا مكانًا ومكانة، وأدخلنا مجددًا في كُلّ الحسابات،
ولم يكُن واقعنا ولا حالنا يسمح لنا، وما كُنَّا أبدًا مُهيَّئين، لكنَّنا أصبحنا
وفي غضون سنوات قليلة، ولكن في خضم صراعات ومعارك كثيرة وكبيرة على مختلف الأصعدة
والجبهات متداخلين إحياء في كُلّ الميادين نحاول البناء.
نختلف
كيف شئنا حوله أو حول التجربة سلبًا وإيجابًا ونقدًا، لا مانع أبدًا، فمن المؤكد أنَّ
استمرار كُلّ هذا الجدل وكُلّ المظاهر والظواهر التي تصحبه طوال هذا العمر لا تخلو
من دلالات كثيرة، لكن تبقى هذه التجربة مقارنة بما سبقها وما لحقها، وماكان يُنتظر
منها حال استمرارها، فهي تظل وبحق محاولة مشروع حضاري نهضوي عربي ذاتي مستقل، كان
يمكن له أن ينتصر ويستمر مُحقّقًا حضارة هذه الأمَّة مجددًا.
(1952
– 1970) هذا هو عمر هذه الثورة، مات جمال عبد الناصر، اتشح الوطن بالسواد، ودعته
الجماهير من المحيط إلى الخليج في جنازة مهيبة فريدة لم تتكرر في التاريخ، انتهت
هذه التجربة، أصبحت من الماضي يُسطّرها ويذكرها التاريخ، ويُسطّرها مَن يشاء كيف
شاء، لن يُغيِّر هذا فيها أو منها شيئًا، ولن تعود حيث لا يعود الماضي، مات جمال
عبد الناصر ولن يعود يخوض المعارك ويقود المواجهات ولم يَعُد مشروعه مُستمِرًّا،
ولم تَعُد تجربته باقية منتصرة، وليكابر مَن يكابر، ويظل منتظرًا مَن يريد أن ينتظر،
تغيَّرت الخريطة تقزَّمت، تغيَّر الواقع، تغيَّرت الأخلاق والمشاعر والعلاقات
والأحلاف والتوازنات والدول والأمم والمصالح والأفكار وحسابات المستقبل، كُلّ شيء
يتغيَّر، كُلّ شيء يتغيَّر إلَّا العقل العربي يظل دائمًا ماضويًّا سَلفيًّا يجتر
الذكريات ويفكر بالماضي قريبًا كان أو بعيدًا، عجزه الدائم عن قدرة قراءة الواقع
وعن التنظير المباشر له ورؤية المستقبل تجعله دائمًا هاربًا إلى الوراء يختبئ في الماضي،
هل بعدما ذهب الناس إلى الضريح وعادت من عناء الجنازة تنام وتستريح؟ وكانت قبل
نومها قد تركت الصهيونية محشورة محاصرة في حدود 67، ولكنَّها حين استيقظت وجدتها
أصبحت إسرائيل، وأنَّها وصلت إلى القاهرة وعمان الأردن والرباط المغرب ومنامة
البحرين وأبو ظبى ودُبَي الإمارات، وترتع في كُلّ الخليج، وتجوب وتجول كُلّ أنحاء
الوطن سِرًّا وجهرًا، جوًّا وبرًّا وبحرًا، ألم يتغيَّر شيء؟! لقد تغيَّر العالم
ويستمر ويمضي تاركنا خلفه من بعيد في مؤخرة ذيله، لقد مات جمال عبد الناصر لمَن ما
زال لا يعلم، ولوكان هُنا لما كان كذلك سوف يُفكّر، كان سيواجه الواقع، كيف ينتصر
عليه ليلحق بالمستقبل، لم يكُن ليرفع صورته في المناسبات والمواسم ويعيد كلماته
وخطبه ومواقفه ويردد مآثره، كان سيخلق رؤى جديدة وحلول أكيدة، ويخوض معارك جديدة،
ويستكمل بناء الإنسان والمشروع إلى أن ينتصر، لم يكُن عبد الناصر سلفيًّا ماضويًّا
يختبئ في كتب التاريخ، ولم يكُن متغربًا، وإنَّما كان يتفاعل ويُجرِّب ويتعلم ويُفكّر
على غير ما كانت تُفكِّر بيئته في تخلّفها وسكونها وجمودها وتبعيتها وانهزامها
وتغرُّبها وسَلفيتها، ولهذا تحسبونه جاء في غير عصره مستبقًا، والحق أنَّهُ ما زال
يسبقكم بعد كُلّ هذا العمر من رحيله، حيث لم يستطع أن يتقدم أحد لمثل هذه المحاولة
الحضارية، كان يمكن لها أن تستمر وتنجح، ومَن شاء فليظل مشدوهًا منتظرًا.
لكنَّها لم تستمر...................
الذى استمر هو التخلُّف...........................
البيئة
الناصرية نموذجًا .
بعد رحيل عبد الناصر مباشرة وعلى أثر تأخر
المواجهة مع العدو الصهيوني والتي كان قد تم الإعداد والاستعداد لها، وعلى أثر استمرار
الحراك الذي كان قد أحدثه جمال عبد الناصر فى الوطن وفى كل جنباته ومجالاته
والمجتمع وفى مناخ من الجدل والفرز والتفاعل تأسَّس تيار ناصري كبير وعريض فى
الوطن العربي، وظل ينمو ويتفاعل ويتزايد بسرعة كبيرة، وبتأثير مشهود مع العهد
والقسم والنشيد أن تظل رايات الناصرية مرفوعة (ما يغيب تيار الناصرية طول ما أنا
عايش فوق الدنيا) وللحقيقة ظلت شعارات وأعلام فلسطين عربية مرفوعة لأمد طويل، وظلت
عقيدة مواجهة العدو الصهيوني تعتمل وتتصدَّر أَّيَّ مشهد، ولا يمكن بإنصاف إنكار دور هذا التيار حتى بعد أفول أو غياب قوة
دفع المرحلة الناصرية بعد ما تم إعلان الحرب عليها وعلى عبد الناصر بكُلِّ الطرق
والوسائل فى الداخل والخارج، كان يمكنك رغم كل ذلك أن تتو قع أو تأمل وقتها أن
يتمكن هذا التيار بما يملك من كوادر وقيادات وزخم التجربة وجماهير الشارع العربي
من خلفه، أن يستعيد زمام المبادرة وقيادة هذا المشروع واستمرار هذه التجربة، لكن
شيئًا من ذلك لم يحدث، ولن يحدث، قولًا واحدًا برغم كل ما يمكن أن نملك من حماسة
وخطابة وشعارات وآمال وأحلام، يمكن أن نفكر فنعرف، ويمكن أن نسأل الواقع فيجيب،
ويمكن أن تجد الإجابة فى البيئة الناصرية ذاتها ومن داخلها وقلبها، أين هم
الناصريون الآن شكلًا وكمًّا وموضوعًا ومضمونًا وقضايا وصراعات ومواجهات ومعارك،
تقزَّم كُلُّ شيء! المهمة الحضارية الأولى في وحدة الأمَّة العربية فى الوطن العربي
أصبحت وحدة فصائل الناصريين فى ساحة ما أو حزب ما أو محافظة أو قرية أو أيِّ مِمَّا
يشابه حيث يوجدوا، الصراع الحضاري وصراع الوجود مع العدو الصهيوني وصل إلى مجرد
صراع على التوقيع أو التمثيل أو التصوير أو الظهور أو التأييد، وأصبحت أسمى آيات
النضال والوجود هو رفع صورة عبد الناصر على الصفحات، وترديد خطبه ومواقفه، والانتفاض
دفاعًا عنه والتاريخ بكُلِّ تحمُّس وتعصُّب، وزيارة قبره فى مناسبات الميلاد
والوفاة، ورُبَّما فى بعض ذكريات المناسبات القومية من الماضي الذي لم يصبح بعيدًا
بعد !
وليس فى هذا شيء غريب أو جديد أو عجيب، مَرَّة
أخرى هي نفس طريقة التفكير السلفية الماضوية مع ذهنية التبرير، وتحميل الآخر
والغير كُلَّ الأخطاء والمسؤوليات الذاتية والتقصير، فسوف تجد أنَّ السادات وحسني
مبارك ومعاهدة كامب ديفيد مع العدو الصهيوني وحرب لبنان وغزو العراق وتدمير سوريا
وحرب اليمن وخراب ليبيا وفتح السفارات الصهيونية فى العواصم العربية والهيمنة
الأمريكية إلى آخره ....... ستجد أنَّ كُلَّ ذلك وغيره طبعًا من الممارسات
والسياسات الإقتصادية والإجتماعية وتغيير بِنَى وهيكلية المجتمع وخلافه، كُلُّ ذلك
هو المسؤول عمَّا وصل إليه حال هذا التيار، بينما أنَّ كُلَّ ذلك فى الأساس هي مُبرِّرات
قيام ووجود وعمل ونضال مثل هذا التوجُّه وهذا المشروع وهذا التيار، وبطبيعة الحال
هو نفس الأمر فى كُلِّ القوى والحركات السياسية والحزبية الأخرى، لأنَّهُ غير
عقلية التبرير والتحميل، هي في النهاية طريقة تفكير، ويمكنك أن تتخذ من البيئة
الناصرية نموذجًا، حيث كانت منذ بدأت وتشكَّلت وفي خضم قوة الدفع المُتحصِّلة عن
طريقة تفكير ومعارك وجبهات وسلوك وممارسة عبد الناصر، والتي كانت دائمًا تؤدِّي
لهذا الحراك الدائم فى المجتمع والحيوية والحركة فى الحياة وديناميتها، وهذا الذى
باستمراره وانتقاله يؤدِّي للتقدُّم والنهوض، وقارن ذلك بحال المجتمع قبل عبد
الناصر حيث السكون والجمود والتوقُّف، استمر هذا التيار على هذا الحال كرَدِّ فِعْل
وبقوة الدفع، ولكن سرعان ما تراجع وانتصرت عليه طريقة تفكير المجتمع التقليدية
الجامدة، فأصبح هذا التيار بما كان يفترض أن يستمر في أن يُمثِّل بيئة التفكير
الناصرية الجديدة، انهزم أمام تقليدية تفكير المجتمع على حاله القديم وسلوكه من
ماضوية وسلفية، فأصبح النضال الناصري وما يُقدِّم من تضحيات هو فى استمرار رفع الصورة
واستمرار حضور تجربة الماضي تُزاحم الحاضر، ولا تترك مجالًا لإبداع فى المواجهة
والتقدُّم والانتقال مُتضمِّنًا كُلَّ إنجازات التجربة وعظمتها، التي كانت حينها
والذي حتمًا تغيَّر فى جوهره حتى وإن استمرَّت نفس مظاهره ولو على سبيل فخ الخداع
التكتيكي، الخلاصة أنَّ البيئة الناصرية على سبيل المثال كان يمكنها أن تُمثّل
استمرارًا لبيئة وطريقة التفكير التى أبدعها عبد الناصر ليُحرِّك بها الواقع ويُغيِّره،
فتطرح الأسئلة على نفسها، وتجتهد وتجاهد في الإجابات، وتستمر فى التقدُّم بالنموذج
المنقدم وتجمع من حوله الدوائر، والحقُّ أنَّها حاولت، لكنَّها وبالنتيجة وفي
النهاية انهزمت واستسلمت، وتغيَّرت معاركها وشكلها وقوامها وشعارها وسلوكها وسبيلها
.
( 2010 -؟؟؟؟ )
كيف تشيطنت الثورة المغدورة هكذا؟ وكيف تحوَّلت
إلى مؤامرة؟! وكيف استحال الربيع العربي هكذا إلى خريف دائم وشتاء قاس قارص، والى
أعاصير عاتية اقتلعت الحياة والناس من أوطأنَّها، وقسَّمَت من جديد، وفتَّتت
أهاليها وأراضيها ودولها، وشردتهم وقتلتهم وهجَّرتهم؟، وما دون ذلك أحبطتهم ويأَّستهم،
إذ من بعد حلم وانتصار هزمتهم وقهرتهم، كيف هكذا انتفض العالم وهمًا وكذبًا ليساند
هذا المارد؟ إذ كان خروجه ملهمًا مبهرًا مفاجئًا، وإنَّما وفي حقيقة الأمر ليتوحد
العالم وتتنادى كُلّ قوى البغي والعدوان والاستعمار بكُلِّ صوره وأشكاله القديمة
والجديدة إنَّما لمساندة كُلّ قوى الرجعية والفساد والتخلُّف والاستبداد لوأد هذا
الربيع في مهده، واغتيال هذا المارد في عهده ووعده، قبل أن يتمكن فيكون، فتتهدد
مصالحهم، وتتبدد ثرواتهم، وتحيق المخاطر نسق حضارتهم وحياتهم، فهرعوا لنجدة
ومساندة ما بقى من عملائهم، ويستبدلون الأنظمة بأخرى، والدساتير بغيرها، والأشكال
بمثلها، بهدف إبقاء حياتنا على ما كان حالها، وإعدام أيَّة إمكانية أخرى لتكرار ما
فاجأهم لولا استطاعوا التعامل معه بمهارة ركوب الأمواج لتفادي احتمالات رُبَّما غير
مأمونة الجانب والعواقب، كذب ما يدَّعون وإن صدقوا في بعض صوره وجوانبه
ومعلوماتهم، فكُلُّنا يعرف أنَّ لأمريكا عملائها في كُلّ مجال، وأنَّ لها
اتصالاتها متفاوتة بكُلِّ القوى والاتجاهات والأجنحة، وأنَّ من المخططات والتصورات
ما يمكن أن يكون مُعَدًّا سَلفًا ويمكن التعامل معه دائمًا، وأنَّ البدائل التي يرونها
مناسبة دائمًا جاهزة، بل و دائمًا متعطشة، ونعرف أنَّهُم لا يألون جهدًا ولا يدَّخرون
مالًا، ولا يُضيِّعون وقتًا، ولا يُفوِّتون فُرصة أو مناسبة تُمكِّنهم من تخريب
عقول الشباب وإلهائها وضياعها لضمان ألَّا تقوم لهُم ولهذا الوطن قائمة، وأنَّ
كثير من المال والتخطيط والتدريب تحت التصرف دائمًا لضمان ولاءات بعضهم دائمًا لئلَّا
ينقلب السحر على الساحر يومًا، كُلّ هذا ممكن وجائز ونوقن أنَّ بعضًا منه حادث، وإنَّما
هول مفاجأة ما حدث شكلًا وحجمًا ومضمونًا وإصرارًا وإرادة ومواصلة متزايدة مبهرة
غير منتظرة أو متوقعة، رسم لوحة جدارية فسيفسائية أخرى على جدار الزمن، وفي ذاكرة
الوطن، تتساقط أمامها كُلّ الصور والتصورات الأخرى أمام عظمة هذا الشعب وقدرته
وصدق حلمه وحدثه ورغبته في الثورة والتغيير، وتوقه إلى الانعتاق من الجهل والاستبداد
والتخلُّف والفساد والتبعية، ويظل هذا دائمًا حلمه رغم خيبة الآمال والأجيال.
لم
تكُن هذه هي الصورة الوحيدة التي كان يمكن أن يؤول إليها الربيع العربي، كان يمكن
أن نُغيِّر وجه العالم والتاريخ ونخلق قيم أخرى جديدة لكُلِّ البسيطة، نعم كان هذا
مُمكِنًا، وكُنَّا قد رأيناه معًا في كُلّ الميادين والشوارع والبيوت العربية،
رأيناه في أحلام الناس البسيطة بين كُلّ هذه الملايين والجموع الغفيرة على امتداد
الوطن الكبير، رأيناه في دموع النساء والشيوخ والعجائز، دموع ندم على ما فاتهم من
غير هذا العز والانتصار والأمل، ودموع فرح بإقبال وإقدام الشباب وملء عيونهم
وصدورهم كُلُّ هذا التصميم وكُلُّ تلك القوة والإرادة وهُم يرفعون الشهداء والجرحى
والمصابين، ويتسابقون نحو الشهادة، ويستقبلون الطلقات، ويواجهون الدبابات
والمدرعات بصدورهم الفتية العارية، تغمرها وتكسوها أحلامهم في الحرية والنصر وبناء
الحضارة، رأيناها في فرح الأطفال وهتافاتهم وصراخهم ملء حناجرهم وقلوبهم ودموعهم
المنهمرة بلا إرادة، رأيناها بكُلِّ العِزَّة والفخر والافتخار في فتياتنا من
البنات الصغار والشابات والسيدات والأمهات وهُنَّ يضربن أروع الأمثلة وأصدق
النماذج في الأخلاق والإخلاص والتقدُّم والتصدِّي والمساعدة والمساندة والتضحية
والفداء، ولنرفع رؤوسنا في عِزَّة وشموخ أنَّ هذه هي المرأة في بلادنا وديننا
وحياتنا.
وكأنَّنا
في بعض ساعات في بضعة أيام نتجاوز كُلَّ القرون من الفساد والجهل والتخلُّف، ونُقدِّم
معًا متراصين في الميدان نموذج حضارتنا الجديدة وكأنَّ شيئًا لم يكُن، وكُنَّا
نتطلع للأمام نستعد للبناء، وكُلُّنا على نفس الثقة واليقين أنَّنا قادرون، وسنبني
كُلّنا معًا عالمنا الذي دائمًا ما نريد، سنبنيه معًا من جديد. وعلى الجانب الآخر وقف كُلُّ العملاء والحُكَّام
وكُلُّ الأجهزة والجهابذة والرؤساء في حالات من الإعياء والإغماء ونوبات الهستريا
وطفْح الغباء وظهور كُلّ المعلولين والعِلل في حالة يرثى لها من العجز والشلل،
لكنَّهُ سرعان ما تبدَّد الحلم وضاع الأمل!
ما
كان يجب أن ينتهي الربيع العربي على هذه الصورة التي انتهى إليها، وإنَّما لم تكُن
في بلادنا نُخَب واعية مستوعبة جاهزة قادرة مستعدة أو لم تستغرقها أوهامها
وأمراضها وخلافاتها وانشقاقاتها، ولم تكُن تمتلك رؤية أو بصيرة أو وسيلة تستكمل
بها الثورة أو تستمر عليها، ولم تكُن مسلحة بالوعي أو بالفكرة أو بالقدرة أو
بالخبرة أو بالتصورات والبدائل والسيناريوهات للتعامل مع الأجواء والأحداث والأجهزة
والأشخاص، ولم تنجح في أيَّة مواجهة من المواجهات كما لم تنجح من قبل، ولم تنجح في
مواجهة ذاتها وفي نفس صفوفها، وسرعان ما عاد كُلٌّ لموقعه المعتاد من الاعتياد
والانتظار في مواقع المعارضة، وسلوك نفس الأسلوب من الصراخ والهتاف والجدال
والمناطحة، لم تكُن قد استوعبت أنَّ الناس استطاعت أن تسقِط الأنظمة، أنَّ الجماهير
تمكنت أن تكشف الأقنعة، لم تكُن تؤمن بالناس والجماهير وقدرتها المعجزة، ولم تكُن
تؤمن بالثورة ولا إمكانيتها أو احتمالها، ولم تكُن تملك القدرة عليها إلَّا شعارًا،
ولم يكُن أحد مستعدًّا لها، ولا تملك صورة ما للمستقبل، وبلا رؤى ودون خطط أو
برامج أو إمكانات، ولم تستطع التماسك أو الاتفاق أو الثبات ولو قليلًا بما يسمح
رُبَّما بالانتقال للأمام خطوات والاستكمال.
وليس
لأحد عذر يمكن أن يقبل، وتلك ذنوب وآثام لا تُغتفر، لم يكُن لأحد عذر في هذا الجهل
والخيبة والعجز والكسل، ولا في هذا الاستهتار والتسطيح والاكتفاء بالخُطب
والأمنيات والشعارات والسجالات دون خطط أو عمل، لم يكُن لأحد من عذر في بيع الكلام
والأوهام ولا النوايا الحسنة، ولا التخلُّف بالاكتفاء وبانتظار ذلك القائد المُخلّص
الفرد الفذ الذي لن يمكنه أن يأتي أبدًا حيًّا كان أو ميّتًا.
وبعد
كُلِّ خسارة في كُلِّ مواجهة كانت أو معركة، تعود النخبة الفاشلة تصُبُّ غضبها على
الناس والجماهير سِرًّا أو دون مواربة، أنَّها المسؤولة حيث لم تواصل، وأنَّها لم
تحسن الاختيار، وأنَّها عاطفية جاهلة مخدوعة مضحوك عليها، وأنَّها تستحق، وأنَّهُ من
أعمالكم سُلِّط عليكم!!! فأين أنتم؟ وأين كنتم؟ وأين ذهبتم؟!
وكأنَّ شيئًا من هذا يُبرئ ساحتهم، لا شيء من
هذا يُبرئهم جميعًا من كُلِّ جرائمهم في حق الناس وفي حق أنفسهم وتخلفهم وضعفهم،
وافتقادهم قدرة وجرأة مواجهة ذاتهم، وتحمُّل مسؤولياتهم جميعًا، فهُم السبب في تأخُّر
الثورة والاكتفاء بانتظارها، ثمَّ إنَّهُم السبب الأوَّل والأقوى في فشلها وعدم
استمرارها وخيبة نتائجها والتقهقر والرجوع واليأس والإحباط وضياع الفرصة وافتقاد
الأمل، ويعود حالهم أسوأ مِمَّا كان، فلقد انكشفت عوراتهم وسوءاتهم وما عاد
بمقدورهم حتى الكلام مثلما كان، وانكشفوا أمام الجماهير التي طالما عابوا عليها أنَّها
لم تكُن تخرج معهم في خروجاتهم الذاتية الكثيرة، والتي كثيرًا ما كانت وغالبًا خائبة،
ها قد خرجت الجماهير عن بكرة أبيها وانتفضت بعبقريتها المتفردة، لكنَّها لم تجد
أحدًا أمامها مِمَّن قعروا ونظروا وعولوا وولولوا وانتظروا خروجها، فإذا بهم خلفها
لا يستطيعون اللحاق بها، ولا يتقدمون ولا ينتصرون، ويُسلِّمون الناس فريسة سائغة
تارة للرجعية والسلفية، وتارة للهمجية والبربرية والقمعية، وأخرى للاستعمار
والصهيونية، في حصاد غير مسبوق لأرواح ملايين الأبرياء والشهداء من أبناء الوطن،
ودمار لا حَدَّ له في الشوارع والمدن والقرى، واغتيال كُلّ مظاهر ومقومات الحياة،
ونهب وسلب غير مسبوق لثروات ومقدرات وإمكانات الأمة، وتعود الناس وحدها في معاناتها
اليومية الحياتية تواجه الفقر والجوع والجهل والتخلُّف والمرض، وتلقى الأمة مصيرها
من الضياع والتخلُّف وإعادة التقسيم
والتشرزم والتفتيت، وتبقى الصهيونية بيننا آمنة ليست عنَّا ببعيد.
لا
عذر لأحد، لم يكُن شيء من ذلك مصادفة، وليس الجهل عذرًا، ولا الخيبة ولا العجز ولا
الإفلاس، ولا الوعي المتأخر وادِّعاء الحكمة بأثر رجعي ولا شيء، لا شيء على الإطلاق،
فما يضيع هُنا ويتساقط وينهار وطن وإنسان وتاريخ ومستقبل وحضارة.
هل كان الميدان حَلًّا؟!
كان الميدان حلمًا.
كُنَّا
جميعًا معًا، كانت صورة كاملة، كان كُلُّ شيء هناك، كانت لقطة لكامل المجتمع
بكُلِّ فئاته وطبقاته وألوانه وأطيافه وطوائفه، بل ومراحله، كان الواقع يتمثل
يتجسد مقروءًا مُعاشًا مكشوفًا واضحًا، وكان هناك التاريخ وخلاصة الحضارة في مؤخرة
رؤوسنا تدفعنا للشموخ، وكان هناك المستقبل أمامنا يأخذ بأيدينا إليه لنخطو، كُنَّا
معًا وكان الماضي والواقع والمستقبل والتفاعل وكُلُّ التفاصيل، وكان التنوع
والثقافة وكُلُّ ألوان الآداب والفنون، كُلُّ شيء قد تجمَّع في الميدان في لحظة
واحدة، وكان الخوف والأمل، كُنَّا إذ نخرج من الميدان لا نشعر بالأمان، كان
الميدان أماننا وكأنَّنا نمسك بموقع إرادتنا ونتشبث باللحظة خوفًا من أن تضيع،
كُنَّا خارج الميدان نضيع، نخاف أن يعود يأخذنا التيه، كُنَّا قد عرفنا وجهتنا،
والميدان كان بوصلتنا، كُنَّا في دائرة وكُنَّا مركز الدائرة والعالم كُلّه محيط،
وكانت كُلُّ الدوائر في عالمنا داخل وخارج الدائرة تدور أو تتماس أو تتقاطع، كان
الميدان مكتظًّا مزدحمًا مفعمًا بالحركة والحيوية والحياة والأمل، كان حوارًا
متواصلًا موصولًا مقبولًا لا ينقطع، كُنَّا جميعًا يُمكن أن نتغيَّر، كُنَّا قرَّرنا
أن نتغيَّر لنكون على مستوى الميدان وكُلِّ ما يتطلبه ما بعد الميدان، كُنَّا هناك
ننفض عن كاهلنا غبار السنين، ونستنشق نسائم الحرية ممزوجة برائحة البارود وانبعاثات
قنابل الغاز وتتسع صدورنا ونمضي، كُنَّا قد اتخذنا قرارنا بشمول المواجهة، سنواجه
كُلَّ الأمور معًا، وأولى المواجهات وأعظمها أن نواجه أنفسنا قبل مواجهة الطغاة،
وصلَّينا ودعونا وشيَّعنا الجنائز وبكينا وتطهَّرنا، وتقدَّم الشهداء مِنَّا والشهيدات
فداءً من أجل المستقبل وأيقونات الثورة والميدان، ومِنَّا مَن يحمل الأوسمة إصابات
وعاهات ويمضي، وغنَّينا وكتبنا ورسمنا وأنشدنا وأقسمنا، وكان كُلُّ جميل نتمناه
هناك، كانت هناك حياة، كُنَّا قد أقمنا نموذجها، وكان الحوار، كما كان هناك
المنسوخ والممسوخ والمجرور والمكرور وما بينهما الكثير والأكثر، كانت هناك كُلُّ الصور،
سواء تلك التي جاءت من الماضي البعيد هناك، أو تلك التي جاءت مرتبطة عقولها
بمساحات ومسافات هناك أبعد ما يكون عنَّا بعيدة غريبة، أو تلك التي تجرُّها
الأحداث دون إرادة، أو تلك التي تُكرِّر نفسها وفكرها في كُلِّ حين وفي مختلف
الأحايين، لكن أكثر مَن كانوا هناك كانوا من الشباب، جاءوا وكُلُّ عيونهم وقلوبهم
وأفئدتهم على المستقبل، وكانوا قد أحاطوه وأحاط بهم، رُبَّما لن يطول انتظارهم،
هكذا كانت أمنياتهم للمرة الأولى، رُبَّما يشعرون أنَّهُ قد تحرَّر تراب وطنهم من
تحت أقدامهم، رُبَّما كانت أولى خطواتهم نحو الحرية، رُبَّما الآن يمكن أن تتحرر
عقولهم ويفكرون بأنفسهم ويعلون كلمتهم وإرادتهم، رُبَّما كانت المَرَّة الأولى
يمسكون بمعاني الكلمات الحرية والكرامة والإرادة، جاءوا من خلف مسافات بعيدة طويلة
كانت قد أجهدتهم قبل أن يصلوا، رُبَّما كانوا قد يأسوا، لكنَّهم هناك الآن في الميدان
فرحين كونهم وصلوا، فخورين أنَّهُم ورُبَّما للمَرَّة الأولى أوصلونا معهم، وصلوا
وكُلُّ سواعدهم فتيَّة، وتطهرت قلوبهم نقية، يمتطون جواد الزمان يُحلِّقون إلى الحرية
وصدورهم منشرحة وعقولهم منفتحة، والأن يمكن أن يبدأ الحوار.
وكان
يُمكن أن يجمع كُلّ أولئك الحوار وأكثر، وكأنَّهُ اهتز وجودنا فرحًا وبُشرى، أو
رُبَّما خوفًا وترقُّبًا وقلقًا، وكان السؤال وكانت الأسئلة وكُلٌّ في فلكه يدور،
كان لا بُدَّ أن يجمعنا الحوار، كان لا بُدَّ من قبول كُلِّ الأراء والأفكار في جدلية
منفتحة متفهمة متحضرة منتجة، ويا ليته كان وليته استمر، وليتنا كُنَّا قد خرجنا من
الميدان عليه بأقل الخسائر من أجل أن نظل هكذا نتواصل، وإنَّما بإرادة أنَّنا ورُبَّما
يومًا ما يمكننا أن نصل، ويمكننا أن نمضي وننتصر.
انفضَّت الجموع من الميدان وكأنَّ شيئًا لم
يكُن!
تغيَّر
شكله الآن (طوَّروه) ولوَّنوه وزخرفوه، يُمكن أن يكون الآن مزارًا، ولكن غابت روحه،
لم تَعُد تُحلِّق بالآمال، عاد الوجود لسيرته العادية اليومية التقليدية الساكنة
الجامدة، يزدحم الميدان بالمارة والعابرين في غُدُوٍّ ورواح ذهابًا وإيابًا دون
وصول، زحام بلا روح بلا حياة بلا أمل، حركة لكنَّها ساكنة مقتولة ميِّتة، حركة في ذات
المكان في نفس النقطة تُكرِّرها لا تبارحها، انفضَّ الميدان وعاد الزحام إلى المقاهي
والملاهي والشوارع والحواري والمساجد والكنائس والبيوت، عاد أسوأ مِمَّا كان، عاد
منطفئًا منكفئًا محبطًا يائسًا بلا جدوى ولا مبالاة ولا أمل، عاد يمارس نفس الحياة
القديمة رتيبة كئيبة مهملة مُملة. لا جديد فيها ولا حركة ولا حياة ولا أمل، ولا
تحدِّي ولا إرادة ولا لزوم، فلا صعاب إلَّا المعتادة التي لا تسعى إليها ولا تستحق،
مُجرَّدًا من كُلِّ ما تختلف فيه عن سائر المخلوقات، اللهم إلَّا الحفاظ على النوع
لا سِيَّما إن كان من هذا النوع الرديء الذي لا لزوم له.
إلى
كُلّ الذين ما زالوا يحلمون بالميدان، انتهى الميدان، انفضَّ مِنَّا قبل أن ينفضَّ
عنَّا ومن حولنا، لم يَعُد الميدان حلًّا مُمكِنًا، أصبح من الماضي في رصيد تجاربنا
وخبراتنا، تغيَّرت الظروف والأجواء والمناخات والأهداف والدوافع التي كانت قد
جمعتنا في الميدان، حصدنا أسوأ ما كان يُمكن من نتائجه، لم نكُن نتصوَّر أن يأتينا
من هناك ما هو أسوأ من ذلك الذي جاء، وتستمر نتائجه لا تتغيَّر تسوء أكثر فأكثر،
فإمَّا تغيَّرنا أو لا نتغيَّر، لم يَعُد الميدان حلًّا
مُمكِنًا ولا تأملوه ولا تنتظروه الآن، ما زلنا لسنا مُؤهَّلين ولن يأتي منه الآن
إلَّا الأسوأ، لسنا أحرارًا بَعْد، ولا يمكن أن نصل الميدان إلَّا أحرارًا ليكون
ميدانًا وإيذانًا بالحرية، وليس محرقة جديدة نستنشق منها جرعة أمل زائدة فنختنق
لنموت،.فكُلُّ لحظة تنتهي يترتب عليها نتائج جديدة، بظروف وعناصر وأطراف مختلفة
بواقع مغاير جديد ولو على نفس الصورة، لا بُدَّ أن تراه بما أصبح عليه هو لا بما
تحب أن تراه أنت أو تتمنى إذا كان من خيالك أو سابق أفكارك أو تصوراتك، كُلُّ حدث
مَرَّ لا يمكن تكراره، وكُلُّ لحظة انتهت لا يمكن إعادتها، اليوم أصبح يومًا آخر
مختلفًا، وغدًا لا بُدَّ لك أن تراه أنت أوَّلًا لتتصوره وتصنعه وتتعامل مع عناصره
وأدواته وتخلقها وتُغيِّر منها، وتُبدِّل وتتفاعل وتُنتج وتُحقِّق كما تريد وتعرف،
انتهى الميدان لا يمكنك إعادته بنفس ظروفه فقد تكون العواقب أسوأوأصعب، كُنَّا نتوق
إلى الحرية لكنَّنا لم نكن أحرارًا، تمنيناها، شَعُرْنا بحلاوتها وقيمتها وقيمة
السعي والجد والانتصار، أحسسناها، لكن لم تكُن عقولنا قد تحرَّرَت وتحرَّر الإنسان
فينا، لم تُفكِّر عقولنا خارج دوائر وجودها وقيودها لم تتحرَّر، اجتررنا نفس طريقة
التفكير، وعُدنا لنفس المسالك والسلوك.
لا
يمكن لشيء أن يتحرك أو يتغير هكذا قدرًا وبلا سبب إلَّا أن تريد وتعرف الأسباب
والنتائج وتحركه، لا يمكنك أن تخطو خطوة في أيّ اتجاه تريده لتنتقل إلَّا أن تكون
حُرًّا في التفكير في هذه الخطوة وفي الانتقال منها أو اليها إلَّا أن تساق دون إدراك.
حرية العقل العربي تبقى أوَّل الأهداف
والمهام والغايات قاطبة، هي أساس كيف تختار وجودك وذاتك وطريقك ومستقبلك، التحرر
من طرق التفكير التقليدية الروتينية السلبية السكونية القاتلة المتكررة، وإلَّا الوصول
دائمًا لنفس النتائج واستمرار نفس الدورة، أصبحت صيرورة متكررة متجذرة فيك تدور في
خلفيات عقلك وتفكيرك وحدها وبتكرار، تشكلت معك ومع نفس الناس حولك باستمرار
التجارب والمعايش والتفاصيل ذاكرة مشتركة وتاريخ، وتتفاعلون مع كُلّ وقائع جديدة
بنفس المعطيات القديمة ليس في عقولكم غيرها، وتتكرر تدور هكذا من تلقاء نفسها ينتج
نفس الإنتاج على أيَّة صورة تظنها جديدة وهكذا، نُفكِّر بما لدينا من مُحصِّلة
وهذه المُحصِّلة معطوبة أنتجتها بيئة راكدة غير مبتكرة ولا مجددة فنتفاعل بها هي ذاتها
وهكذا، أمَّا أن نتوقف فنراجعها فنُقيِّمها قبل أن نُفكِّر بها نُفكِّر فيها، كيف
جاءت؟ كيف قبلناها واستقبلناها؟ مَن الذي أورثنا إيَّاها؟ كيف نقبلها ونُفكِّر بها؟
ونعيد، نكتشف أين الخلل داخل عقولنا، إن هكذا نُفكِّر بمحتواه المعطوب فتكون طريقة
تفكيرنا هي موضوع التفكير، فيكون النقد والتغيير، فنبتكر طرُق أخرى، ونكتشف قوانين
أخرى، ونبدع وسائل أخرى، ونتطور ونُطوِّر البيئة من حولنا وهكذا، وإنَّما كُلُّ هذه
العملية الجدلية لا يمكن بحال من الأحوال إتمامها إلَّا داخل عقول حُرَّة تمكنت من
كسر أغلالها وفك قيودها المتزايدة المتعددة. فإمَّا الحرية وامتلاك هذه القدرة في التفكير
خارج ذات الإطار تقدما فتتحرك للأمام وتُحرِّك معك بيئتك والمجتمع، وتقوده وتسيره
معك متقدمًا، وإمَّا السكون والجمود والاستسلام فيُسيِّرك المجتمع يُفكِّر لك
ويختار ويحدد هو لك، ويطبعك بطباعه كاملة نسخة باهته متكررة، وإن تفوقت مُقلّدًا
أو مُكرّرًا تابعًا لا مُبتكرًا ولا مُبدعًا.
فإمَّا أنَّك لا تُفكِّر، أو أنَّك لا
تُفكِّر بعقلك أنت وإنَّما تُفكِّر بكُلِّ ما أنتجته البيئة فيك متوارثًا متكررًا،
فأنت هكذا تُفكِّر سجينًا مُقيَّدًا بلا حرية، ومن دون الحرية في العقل والتفكير فلا
عقل ولا تفكير ولا تغيير.
ما
هو التفكير؟، ماذا يعني أن تفكِّر؟، كيف تُفكِّر؟، ما هي خطوات وآليات هذا التفكير؟، من أين
جاءت؟، كيف تعلمت أن تفكِّر؟، مَن الذي عَلّمك كيف تُفكِّر؟، من أين كانت الجذور؟، كيف تدور هذه العملية
وبماذا ترتبط؟، ما هي سماتها العامة والخاصة فيك؟، ما الذي يُميّزها أو تمتاز به؟،
وما هو قدر الحرية التي تتمتع بها وأنت تُفكِّر كي يُمكنك أن تفكِّر حُرًّا؟، ما
هي الحدود التي يُمكن أن تتوقف عندها أفكارك؟، مَن الذي يُحدِّدها؟، ما هي الخبرات
المُؤثّرة ويمكنك أن تستجمعها وأنت تُفكِّر؟، من أين جاءت؟، والى أين تصل؟، أين نتاج
تفكيرك؟، ما هو؟، ما مُحصّلته وكيف يُحرِّكك؟، لماذا يُمكن أن تقف هُنا أو هناك أو
لا تقف؟، كيف يُمكن أن تستمر أن ترِدْ؟ وما الذي يمكنه أن يمنعك؟، لماذا تمنع هذا
وتُحرم ذاك؟ وتُقدِم على هذا ولا تجرؤ على ذاك؟، لماذا لا يمكنك أن تجرؤ إن كنت
تريد؟، ولماذا لا تجرؤ؟، مَن الذي يُحدِّد؟!
هل اكتشفت شيئًا خلال هذه الأثناء؟!
كيف كنت تُفكِّر؟
لو
أنَّك أنت الذي تُفكِّر فأنت تعرف ماذا تريد وكيف تحقق ولا تنتظر.
ماذا تريد؟
كيف تحقق؟
ماذا تنتظر!
كثيرة
هي الأسئلة، كثيرة جدًّا ومرهقة، وعبثًا تحاول أن تهرب منها أو تبتعد عنها، وكُلَّما
اقتربت منها تنفجر أمامك المزيد من الأسئلة! فكيف يُمكن أن تواجهها؟ كيف يُمكنك ألَّا
تهرب منها أو تبتعد عنها أو لا تنزعج؟ كيف وأنَّك لا تستطيع أن تجد من حولك إجابات؟
سواءً فيما مضى أو فيما هو آت؟ وكيف وأنَّكَ لا يُمكنك أن تبصر نماذج؟ وكيف وأنَّكَ
رغم كُلِّ هذا الزحام من حولك تبدو وحيدًا في كُلِّ المعارك وعلى كُلِّ الجبهات؟!
أحيانًا تحاول أن تمضي دون هذا الارتباط بين ما يمكنك أن تتصور أنَّك تريده
وأنَّهُ رُبَّما يمكنك الوصول إليه بمعزل عن كُلِّ ما حولك في مجتمعك من مشاكل
ومصائب وتخلف وإحباطات، وقد تمضي بضع خطوات وقد تصعد بعض درجات إلى أن تفيق محبطًا
بائسًا يائسًا متعثرًا، فهذا لا يمكنه أن يحدث، وأنَّهُ يستحيل أن تنهض وحدك ولا
لأحد ممتد منك من بعدك في دوائر مظلمة معتمة هكذا، لا ينفذ منها أبدًا ما يُبشّر بأيَّة تباشير
ضوء قادمة، وأنَّ كُلَّ مَن حولك وكُلَّ ما يحيطك يشدُّك إلى الخلف ويجرُّك إلى الفشل،
وأنَّهُ لا يمكنك أن تنجح وحدك إلَّا ورُبَّما أن تكون الأعور بين العميان، لكنَّك
لا تستطيع أن تبصر، أو أنَّك أحسن السيئين فلا تحسن، أو أنَّك زهرة عطرة في بستان
عفن عطن، فتفوح برائحة البستان مرويًّا من ماء بِرْكتها الآسِنة، إلَّا أن تنبت
شاذًّا فتكون استثناءً على القاعدة يؤكدها ولا ينفيها، أنَّك نَبْتُ بيئة متخلفة
جاهلة، وأنَّهُ لا يمكن أن تكون قيمة لك إلَّا أن تتقدَّم هذه البيئة آخِذًا بيدها،
مُنيرًا لعقلها، جاذبًا لها، منتقلًا بها، متحركًا حيويًّا مرتفعًا بها، هنالك
يمكن أن ترتفع بها، وترتفع منتشلًا نفسك وإيَّاها فرحًا منتصرًا تواجه كُلَّ الأسئلة
وتبحث عن المزيد. إذ لا يمكنك أن تنجو منفردًا إلَّا أن تنجو لتقود، وتقود مَن
يمكن أن ينجو معك وأكثر ثمَّ الأكثر إلى أن يكون نموذجًا جديدًا فيتغير من شكل
البيئة ومضمونها، وحينها يمكنك أن تحصد نجاحات، وتشعر نجاحك، وتتقدم، وهكذا، وما
دون ذلك يستحيل إلَّا أن تتغير المعايير، فمعايير النجاح والفشل والتقدُّم والتخلُّف
والسيِّء والجيِّد مرتبطة دون شك بما أنت فيه من محيط، فلو أنَّ الرفعة للعلم فلن
ينفعك علمك في مجتمع جاهل إلَّا أن تقوده لتُحرِّره من الجهل، فتظهر وقتئذ قيمتك
وقيمة العلم، وهكذا كُلُّ القيم الجميلة والنبيلة من عمل وصدق وإخلاص وتعاون
وإيثار وإقدام وشجاعة ومحبة وإيمان ووحدة وتقدُّم ورُقِيّ وحضارة وثقافة وأخلاق
وتضحية وفداء وجهاد وانتصار واستشهاد وهكذا، فلن يُقدِّر مجتمعك قيمتك وقيمة عملك
إلَّا إذا كان يُقدِّر هذه القيمة أساسًا في ذاتها، يمكنك وقتها أن تشعر بنجاحك
وتنال التقدير، وهو في حد ذاته دافعٌ باعثٌ على المحاكاة والتطوُّر والتغيير،
وإلَّا فقد يمكنك أن تحصل على أعلى درجة علمية مثلًا في تخصص ما دقيق نادر، تُفني
فيه وقتك وجهدك ومالك وكل عمرك في بيئة لا تدرك أنَّها في حاجة إليه من جهلها الذي
هي عليه وتخلفها الذي هي فيه، فلا تعيره اهتمامًا ولا تلتفت إليه، ولا تستفيد شيئًا،
وقد تسخر منك ومنه فتموت كمدًا بعدما أفنيت أو تعيش قهرًا وعجزًا تفخر وتسخر
مِمَّا عانيت، وتظل تعاني بشكل آخر قاتل في صمت عاجز.
أو أن تكون القيمة للسلطة والمال، وكم تملك من أطيان
وعقار وتعيش القصور وترف الحال، وماذا تركب وكيف تسافر، وتحيط بمسكنك الأسوار، وكيف
أنَّك تفتح بيوتًا وفضائيات، وتغدق العطايا، وتنسج من حولك الأساطير وتصحبك
الأميرات والعاهرات والكاميرات والأبواق والتصوير، وتذيع سيرتك عل لسان كُلِّ الأفاقين
والمنافقين والدجالين، وتصحبك أينما حللت كُلُّ الراقصات والراقصين والطبالين، وقد
تُنشئ أحزابًا وتغوص السياسة وتعبث بالثقافة والمثقفين، وتوفد أتباعك البرلمانيين
والترزية والخياطين وحياكة وشياكة القوانين بأحدث الألوان والأشكال والأطوال والمُعرضين،
فلا يهمنَّك أبدًا من أين أتاك الجاه والمال، أو من أين أتيت به، ولو بتمويل
أعدائهم، أو بسرقتهم واستغلالهم، أو بافقارهم وتجويعهم، أو حتى على أشلاء جثثهم،
ما دُمت تملك وتحتكر وتستأثر بالقيم العُليا للمجتمع! فالويل لك والويل لهُم،
وطوبى للشرفاء والشهداء والشباب، وكُلِّ معاناتهم مع أنفسهم ومع المجتمع!
تتزايد
التناقضات، تتعاظم الأسئلة وتتكاثر فتبحث عن أيّ مَهْرَب من عناء الإجابات التي لا
تراها ممكنة، فقد تهرب إلى ذاتك مكتئبًا مُحبَطًا، أو إلى الشِّلة ضاحكًا هازلًا مستهزءًا
ساخرًا، او إلى أيٍّ من الشاشات مشاهدًا متفرجًا بكُلِّ ما يمكن أن تصُبَّ فيك من
قيم قد تكون مستعدًا لتقبُّلها والتعاطي معها ولو حزينًا متحسرًا متألمًا، أو
سيجارة يمكنك الحصول عليها هاربًا مستأنسًا، أو مقهى يومي وفَّرت له من مالك أو
مفلسًا، أو تلك الصُّحبة أيَّة صُحبة ليس مُهِمًّا إلَّا أن تكون هكذا دائمًا تائهًا،
أو في أحسن الأحوال أو معظم الأحوال تظل هكذا منتظرًا ما لم تكن هاربًا، عسى أنَّ شيئًا
ما أو أحدًا ما يُغيِّر حياتك والحياة.
فهل
فكرت يومًا أن تمارس حقك في اتخاذ القرار، أن تفكِّر في الاختيار، أن تمارس شيئًا آخر
أو تُجرِّب شيئًا آخر غير الانتظار، أو رُبَّما تحلم، أتخشى الحلم أو يقولون عنك
خياليًّا واهمًا لا يمكنك عيش الواقع فتهرب للخيال والأفكار، أوَ ليس أولى وأجدى
لروحك ونفسك والاستمرار أن تجد لنفسك حلمًا ترسمه وتسعى ما استطعت لتبلغه وتعيش من
أجله، فيكون لحياتك سبب وهدف تؤمن به وتريده وتسعى إليه إلى أن تصل إليه أو يصل إليك
وتبلغه، أوَ ليس ذلك أفضل كثيرًا من أن تصحو كُلَّ يوم وتعيش ذات الواقع الكابوس
الذي يُحطّم فيك كُلَّ يوم شيئًا جديدًا من طموحك وآمالك ونفسك ووجودك إلى أن تقبل
به وتنتظر المزيد قانعًا خانعًا تابعًا، ودائمًا وفي كُلِّ الأحوال ناقمًا ساخطًا،
هل رُبَّما أن يكون هذا هو اختيارك ولو مضطرًا أسفًا، ألَّا تُفكِّر، ألَّا تحلم،
إلَّا تكون سعيدًا ولا يبتسم قلبك، وأن ترضخ لهذا الواقع قابلًا دون إرادة فيك
ودون محاولة أو قدرة منك! أو لا شيء إلَّا أنَّك فقط تنتظر الانتظار ثمَّ الانتظار
فلا يأتي إلَّا الأسوأ رغمًا عنك، لأنَّك لم تشارك فيما هو آت، ولم تعمل له، ولم
تحاول جاهدًا تغيير ما أنت فيه من واقع، فمن أين يمكن أن يأتي الأحسن أو يأتي مايمكن
أن تنتظره! فتعود لتنتظر أن يتغير هذا الذي أنت عليه، أو تنتظر ليأتى شيء آخر ورُبَّما
لعام آخر أو في عصر آخر أو رُبَّما شخص آخر، وكل شيء مرتبط بالآخر منتظرا فمتى
يمكن أن يكون مرتبط بك وبكل ما هو لديك أنت، بوعيك بفكرك بمشيئتك بارادتك بقدرتك
بخلقك وإبداعك........... الانتظار بعد الانتظار بلادة فوق جهل ثمَّ تخلف ثمَّ استمرار
في البلادة، انتظار ما لا يأتي أبدًا هو أيضًا أمر خيالي لكنَّهُ هُنا خرافي، خيال
مريض حيث لا يرتبط بأيَّة قدرة أو إرادة، الانتظار سبيل العجز والعجزة، والعجز هو
مبرر الانتظار، وحين يطول يخلق عجوزًا منتظرًا إلى أن يشيخ فيموت أو يظل منتظرًا
الموت، والموت حتمي قدري يمكن انتظاره، لكن الحياة قرار واختيار ولا يمكنهما
الانتظار. الانتظار ضعف في الإيمان وكُفر بالإنسان حيث الإرادة والقدرة والمشيئة
التي أودعها الله خلقه، فكُلُّ الأقدار خير ما دُمت مستعدًا لها ومتأهبًا قادرًا
وقابلًا للتعامل معها، واستجداء القدر أسوأ حالًا، والوقوف عند مجرد الدعاء هو
أسوأ حالات الانتظار، فهو الإقرار بفقد القدرة وفقدان الإرادة وعجز الوسيلة، وهو
اعتراف ضِمْنِي كافر باستواء الوجود والعدم، وكأنك شيء ضِمْن الأشياء أو أسوأ حالًا
من الدواب.
رُبَّما
فقدت أنت أو فقدنا كُلُّنا معًا كُلَّ الطرُق والمحاولات الإرادية، ورُبَّما لم
تجمعنا المحاولة يومًا ولم نجرب أبدًا مدلولات هذه الكلمة، هل استنفذنا كُلّ قدرات
العقل وإمكانياته أو مخزونه ووعيه واستيعابه وقدرته، وحاولنا وتعلمنا وتعاملنا مع
كُلِّ مخرجات العلم والتمييز والإرادة والتجارب والنماذج والتبيئة والمحاكاة،
ناهيك عن قدرات الاكتشاف والابتكار والإبداع في حال حرية العقل والتفكير.
أو
لعلنا نظلم أنفسنا ونجلد ذاتنا، ولرُبَّما تلك مصائرنا ومصائبنا وأقدارنا ولا سبيل
إلى تغييرها أو تغييرنا!
ما
هي الخيارات الأخرى المتاحة؟ رُبَّما لا شيء نستطيعه أو نتمكن منه غير الانتظار
ثمَّ المزيد من الانتظار!
ماذا
عن الاكتفاء بالمشاهدة وكأنَّ كُلّ ذلك حولنا لا يعنينا ولا يؤثّر فينا؟، وكأنَّنا
في جزيرة هكذا معزولة أو معلولة لا نؤثّر في شيء ولا نتأثر بشيء، فهل أمكن يومًا لهذا
الفرض الخيالي المستحيل أن يتحقق!
وإلى أين يمكن أن تنتهي كُلُّ المحاولات والاحتمالات لأيَّة حلول فردية؟،
هل استطاع أحد أن ينجو بنفسه مع نفسه من كُلّ تأثير حوله حتى وإن يفكر بالهجرة
والابتعاد والسفر؟، أين يمكنه أن يهرب من عقله وفكره وثقافته وذاته وبيئته ومجتمعه
وطريقة تفكيره دون أن تلفظه المجتمعات التي يظن أنَّهُ هرب اليها؟، وكيف يمكنه أن
يبعد عن أهله وذويه وأبنائه هناك أو حين العودة؟ رُبَّما كُلُّ تأثيرات الفساد والتخلُّف
والسلبية والتبعية، رُبَّما أمكنه أن يؤمِّن بيتًا ودخلًا وسُبُلًا للعيش إنَّما دون
حياة، غير ذلك الانفصام الذي خلقه لنفسه ومَن معه بقية الحياة، فلم يتغير شيء في الثقافة
أو السلوك والتفكير، ولم تتحسن أحوال الصحة والتعليم والسياسة والكرامة والتبعية،
ولم ينتهِ الفساد ولم ينقطع التخلُّف والاستبداد، وإنَّما قد ساءت كُلّ الأمور ولم
تعُد هناك أيَّة قدرة أو إمكانية للاحتمال، وزاد الشرخ والمسخ والانقسام
والازدواجية، وضاعت سنوات العمر كما ضاعت تحويشة العمر بحثًا عن حَلٍّ زائف،
والتنقل والترحال كما البهائم ينقلونها من مرعى فقير لمراعٍ أخرى رُبَّما غنية،
ولم يتغير شيء، بل ساء أكثر كُلّ شيء، اللهم إلَّا بعض من مالٍ قد نفذ أو في طريقه
أن ينفد!
فإذا لم يكُن الانتظار شيئًا، ولا يُمثّل التكيف
والتعايش أملًا في الإنسانية، ولا السفر والهروب يُمثّل حلًّا، فإنَّ استمرار
ممارسة النقم والسخط قد يصل بك أن تكره كُلَّ الأشياء ولا تستثني منها نفسك، حيث
لم تُفكِّر ولم تُغيِّر، ولا تحيا، ولا يمكنك أن تظل هكذا تعيش عاجزًا منتظرًا،
فماذا عن محاولة الانخراط في كيانات ما رُبَّما لحلول ما جماعية؟ وهي الأصعب والأطول لأنَّها إن نجحت نفعت وغيَّرت
وبدلت ونجعت، إلَّا أن تضيف إلى المرض الواحد أمراض عِدَّة لا يمكن شفائها من
الشللية والغوغائية والديماجوجية وغيرها من أمراض نفسية مجتمعية كثيرة كنواتج
طبيعية من طول عناء، ومعاناة من القهر والتخلُّف والتفرُّد والاستبداد المزمن في مجتمعاتنا
على مَرِّ التاريخ والأزمنة، أو قد يصادفك على رأس مثل هذه الجماعات والتكوينات وهي
كثيرة مرضى الزعامة وهوس الذاتية والنرجسية، ليجد فيك فرصته كالآخرين لبيع الأوهام،
وممارسة الأمراض الذاتية على نطاق رُبَّما يتسع ويزيد من فُرَص المرضى الآخرين،
أولئك الذين تملؤهم المشاعر أنَّهُم وعلى رأسهم زعيمهم يهتفون باسمه، ويُقسمون
بحياته، ويتزاحمون معه في الصور والمناسبات القومية كمبعوثين مخلصين تابعي القائد
الفذ المُخلّص الفرد الزعيم المتفرد الملهم المتوحد الأوحد، ورُبَّما هو المهدي
المنتظر مُوحِّد القطرين وحامي حِمَى الحرمين، ومآسي الواقع تمتلىء، وكوابيس
الأوهام والتخيلات لا تنتهي، مُضيِّعة للوقت والجهد وإهدار للتجارب والخبرات
ومحاكاة لأعماق غائرة في الزمن لكنَّها كُلَّها سمات مثل نخب و مجتمعات كهذه، بضاعة فاشلة حجّتها فشل الآخرين في مواجهتها
أو من حولها، لا نجاحات ولا طريقة يُفكرون، ولا رؤية يمتلكون، وإنَّما هُم هكذا في
ذواتهم المتضخمة، حلول سحرية ممكنة، بينما انتهى عصر الرسل والأنبياء، وانتهى زمن
المعجزات، لكنَّهُ في مثل بلادنا لا ينتهي ولا يُمثّل معجزة في مثل المجتمعات
المتخلفة التي تظل تنتظر ذلك القائد المُخلّص الفرد، بل وتُعزِّز من داخلها طلائع
نخبوية قائدة تبشر بالقائد الملهم والبديل الأوحد والحل الأنجع لكُلِّ مشاكل الأمة
قاطبة، ولرُبَّما البشرية أجمع! والجماعات كما الأفراد لها نفس طريقة التفكير
والثقافات والذاكرة والخبرات، فأحيانًا تُقرِّر الانتظار وتستجدى القدر، ولا مانع
من حلقات ذِكر ودعاء على كُلِّ الظالمين الفسدة، أو حفلات زار ومؤتمرات خطابة
وعويل وهتاف وتهليل وتكبير، وقد يفتكسون التعامل مع الواقع كما هو بطرُق عِدَّة،
رُبَّما القبول به والتعايش معه، إذ اقترب أن ينهار من داخله بحرق مراحله في انتظار
نتائجه والقفز عليها، أو قد ينضمُّون في صفوفه ومكوناته، أو يندمجون معه، أو
يتسللون إليه بحجة إصلاحه من داخله، أو يرفعون شعارات الإصلاح ويبذلون محاولات
التطوير، ويجتهدون بنفس القوانين والآليات، فقد ينتهي بهم الأمر مسؤولين في نفس
الأنظمة، أو إلقاء ما تبقَّى من فتات أو بعض مصالح أو رشاوى هُنا أو هناك أو حتى
وعود رُبَّما في مرحلة مقبلة، أو رُبَّما الاستمرار في صفوف المعارضة، وأحيانًا ما
تكون أكثر ربحًا، أو من باب توزيع الأدوار، ومنهم مَن ينتهي مع المخبرين والمرشدين
وعناصر الأمن والأجهزة في المجالات المختلفة والمتعددة، إعلامية أو سياسية أو
حزبية أو حقوقية وإلخ إلخ وخلافه.... ومنهم مَن تواتيه الفرصة فيتجاوز الأنظمة
ويتعامل مباشرة مع الخارج حيث الأسعار أعلى، والعُملة أقوى، والتأمين دولي، والصِّيت
عالمي، فيقع عليه الاختيار محظوظًا حقوقيًّا كان أو إعلاميًّا أو ناشطًا ثقافيًّا
أو سياسيًّا أو رُبَّما خبيرًا استراتيجيًّا، جواسيس رخيصة غير مُكلّفة ولا مكشوفة،
وليس في شيء من هذا تجنٍّ على أحد، ولا أدنى مبالغة تُذكر، والنماذج حاضرة معروفة
على مَرِّ التجارب والمراحل مَثار للتندُّر والسخرية والعِبَر والدروس، كما إنَّ هذا
ليس إجماعًا أو إجمالًا، إن هي إلَّا نماذج شاذة لمَن واتتهم مثل هذه الفرص فاختاروها،
أمَّا مَن لم تواتِهِ في مثل هذا الحال لا نعرف إن واتته أين يمكن أن يكون، ولكنَّنا
نعرف وعلى وجه اليقين أنَّ ما دون ذلك من النماذج هُم الأكثر والأشرف والأروع
والأصدق والأخلص، وليسوا فقط هُم الشهداء الأعظم، أو مَن تمتلىء بهم السجون، وإنَّما
في كُلِّ جنبات بلادنا ونواحيه ونواصيها، أولئك الشرفاء المخلصون لا يردعهم ترهيب،
ولا يهزُّهم أو يميلهم ترغيب، وإنَّما يزيدهم قوة وإخلاصًا وأملًا والى كُلّ عمل
مخلص يتوقون ولا يعيبهم إلَّا الانتظار أو أنَّهُم لا يبادرون.
وهُنا
لا بُدَّ من الوقوف إجلالًا وإكبارًا وتعظيمًا للشهداء، كُلّ أولئك الذين امتلكوا
شجاعة وحسم الاختيار وقدرة القرار، وهُم الآن أحياء يُرزقون وإنَّما بعِزَّة وشرف
وكرامة، تصدَّروا الصفوف بلا تردُّد، وآمالهم حلم الثورة والتغيير، لم يقعدهم
تنظير أو تقعير، لم يُفكّروا لحظة فيما يغتنمون وهُم وحدهم المنتصرون، رحلوا في ارتقاء
على إنَّنا استكملنا فأسقطنا الطغاة والغزاة، وانتصرنا على الفساد، وطهَّرنا
البلاد، وأعدنا بالعِلم بناء كُلّ المؤسسات، وأطعمنا الفقراء والمساكين والمحتاجين،
وأقمنا نُظُم عادلة متطورة للصحة والتعليم، والكفاءة هي المعيار، والشباب على
طريقهم إلى المستقبل واعدًا، وأنَّ كُلَّ الفُرَص متاحة بالمهارة والكفاءة، فعُدنا
إلى القراءة والثقافة والتعليم واكتساب المهارات والخبرات والتطوير، وأنَّ عقولنا
تغيَّرت وطريقة التفكير.
طوبى للشهداء المنتصرين أحياء عند ربهم يُرزقون،
وصبرٌ جميلٌ وعونٌ من الله لكُلِّ الشرفاء خلف قضبان المعتقلات والسجون بسبب آرائهم
ومعتقداتهم وشرفهم وشجاعتهم وإقدامهم، وإنَّهُم لمنتصرون.
.
الأمر جَدٌّ لا هزل فيه، فالصورة سوداء قاتمة
مخيفة مفزعة، إنَّ واقع الفراغ والضياع الذي يجتاح أجيالنا الشابة ومجتمعنا لهو
نذير رُبَّما أخير بالانهيار الوشيك، إنَّ واقع التشوُّه والتفسُّخ والخواء بات
يسري في كُلِّ عروق المجتمع وفي كُلِّ شيء، فوق الجهل والتخلُّف والأمية، وهذا حال
غير مسبوق، إنَّ كُلَّ ما جاء من أعماق التخلُّف ومن جذورنا وما أصبح يُعشِّش فينا
ويحيطنا من ظواهر ومظاهر مرضية مزمنة مُعدية مستشرية قد استفحلت في أجيالنا بشكل
سريع ومخيف، مضافًا إليه ما ألمَّ بشبابنا من إحباط ويأس واستسلام ولا مبالاة
ممزوجة بتوفُّر كُلِّ مجالات وإمكانات التغرُّب والتفسُّخ والتهيُّؤ والاستعداد
للضياع، في مناخات وأجواء من الفراغ والخواء تطال كُلَّ حال ومجال، إنَّ غلبة
مشاعر الإحباط والانهزام واليأس وطغيان اللا أمل واللا جدوى وغياب أيَّة مستويات حقيقية
للمشاركة والتفاعل ورُبَّما ذلك الشعور بالعقاب الجماعي والموقف المعادي أو
المرتاب، أبعد الشباب وغيَّبهم عن الإحساس بأيَّة قيمة لأيّ شيء جماعي أو مجتمعي،
وهيَّأهم للاغتراب أكثر وأكثر، وأمكن منهم الاستسلام والحياد والاكتفاء بالسخرية
والمشاهدة، إنَّ تراجع مستوى التعليم بهذا الشكل الكبير جدًّا وغير المسبوق، مع هذا
التكدس الأكبر في الصفوف والفصول والمدارس والجامعات في غياب القدرة والروح
والاهتمام والإمكانية على المتابعة والتعامل معه بالحوار أو التوجيه أو لفت
الانتباه والاهتمام، وتدنِّي قيمة الثقافة، وسفاهة وتسطيح المنتج الثقافي وعدم
الاهتمام به وبمكانته وأهميته، مصحوبًا بالصعوبات الاقتصادية والمعيشية المتزايدة والتي
فاقت كُلّ قدرة ممكنة للاحتمال، مع تلك الضبابية الكاملة وغياب أيَّة رؤية لمواجهة
المستقبل وصعوباته، مع اختلال القيم والموازين في المجتمع وإهمال وإهدار وعكس
الأولويات بما لا يجعل للشباب أيَّة فُرصة أو أمل، إنَّ تحوُّل المشهد كُلّه إلى مجرد
مقاعد للمشاهدين والمتفرجين والمستمعين والمؤيدين يجعلنا خارج التاريخ وخارج إطار
الزمن، إنَّ النظرة المهتمة الحريصة لما آلت إليه أحوال الشباب والأجيال الجديدة
في أخلاقها وسلوكياتها وثقافتها واهتماماتها على مختلف المستويات وفي كُلّ المجالات
لتؤدِّي إلى الخوف والقلق والاضطراب الشديد، حيث تُمثّل هذه الفئة العمرية لشريحة
الشباب ما يقترب من الستين بالمائة من التعداد العام للبلاد، مِمَّا يجعلها من
المفترض أن تكون القوة الدافعة الشابة للمستقبل في أمَّة يُفترض أنَّها بهذا
التكوين تكون أمَّة شابة فتيَّة قوية. أمَّا وحالنا والواقع هكذا فلم يَعُد من
الممكن أن تفلح معه المُسكّنات والمُلهيات والتلكؤ والانتظار.
إنَّ الاستثمار في إعادة بناء هذه القوة الجبارة الفتية من شباب هذا
الوطن بما يُمثّل كُلّ إمكانيات المستقبل وأعمدته هو الاستثمار الوحيد الرابح
الأكبر الممكن وأن هذا الجيش الجرار من الشباب الذي يتجاوز تعداده أكثر من نصف
التعداد العام لهو الذي يمكنه إن أُحسِن إعداده وإعادة تكوينه وتقويمه حُرًّا مستقلًا مُفكِّرًا، الانتصار
على المشروع الصهيوني المُعادي لوجود أمَّتنا وحضارتنا، لعلنا لم نعد نملك ترف إهدار
المزيد من الوقت والفرص والآمال التي ما زال بإمكاننا تحقيقها إن أحسنَّا الفهم
والفكر والتصرف، والتفتنا إلى حقيقة واقعنا وأحوالنا المتردية المتمادية في التخلُّف
والفساد والتبعية دون توقف ودون مواجهة واعتراف، واعتبرنا أنَّ ما نحن فيه من
ويلات ونكبات وتراجع ونكوص إنَّما هو فرصة للتحدِّي، واستجابة للمواجهة واستعادة
للنهوض مستوعبين دروس التاريخ، مدركين أبعاد مشكلات وصراعات ما أصبحنا عليه
متطلعين مخلصين لبناء مستقبل مستحق
ففي مواجهتنا مباشرة ذلك المشروع المُعاديي لكُلِّ إمكانات أيّ مستقبل لهذه
الأمَّة، والذي باتت كُلُّ ملامحه أوضح ما يكون، بحيث إنَّهُ يُنفَّذ عل الأرض، بل
وفي مراحله الأخيرة على مشهد ومرآى الجميع، مباركة ومشاركة وتآمر أو استهتار وإهمال
وتهاون أو غفلة وخيبة وجهل أو عجز وخفة وقلة الحيلة والوسيلة، مشروع إعادة تقسيم وتقزيم الوطن وتفتيت الدول وتقطيع أوصال
الأمَّة، بما يجعل الهيمنة والسطوة والسيطرة كاملة لإسرائيل الصهيونية، ويعدم أيَّة
إمكانية في المستقبل للتقدُّم والنهوض ولرُبَّما الوجود، ليس للأمر علاقة بالتشاؤم
والنظرة السوداوية للأمور، ولا استفزاز المشاعر واستثارة الشعور، لكنَّهُ وبكُلِّ
الحسرة والألم والوضوح واقع نعيشه في بلاهة منذ عقود، ونمضى مختارين أو مخدوعين
واهمين غافلين أو متغافلين، إلى إن صحونا من سباتنا على سبات، وكُلُّ شيء يضيع من
حولنا، حتى محاولات الحلم أو مجرد الأمل، إلى أن تتقزم أحلامنا في الوحدة والتقدُّم
والنهوض ومشروعنا في الدولة العربية الموحدة المتقدمة الكبرى والقادرة القوية، والتي
تملك كُلَّ إمكانيات القيام والوجود ولا يمنعها شيء غير استمرار تخلفها وجهلها
بمصالحها وتبعيتها لأعداء وحدتها وتقدُّمها ووجودها، ويغيب حلمنا في استنهاض
مشروعنا الحضاري واللحاق بالمستقبل، أمام حقيقة الواقع المخزي والمُذِل، لنبقى
بالكاد نحاول التمسُّك بحلم البقاء، والأمل في الإنسانية والوجود.
لم
تكُن سوى بضع سنوات قليلة في الآونة الأخيرة وتغيرت كامل الصورة، لم تتغير ألوان
الزمن، وإنَّما ازدادت الصعاب والمِحَن، تغيرت خريطة الوطن في انتظار إعادة ترسيم الحدود، ويمكن ألَّا تكون قيمة للحدود،
حيث يمكن أن يتغير وبنفس السرعة شكل وتركيبة الوجود، لم يَعُد شيء غير ممكن، لم
يَعُد شيئًا مستحيلًا، سقطت من بين أيديكم بغداد، وانتزعت من تلافيف أحشائكم صريعة
مع الملايين من كُلِّ أبناء الوطن والعراق بين قتيل وجريح ومُهجَّر مكسور وذليل،
ولم تعُد للعراق قائمة، وكم عراق سوف تقوم هناك إذ تقوم، فلنفتح الأقواس ونضيف إلى
القائمة مع نابلس والقدس وفلسطين والناصرة، ها هي الكوفة والبصرة وبغداد ودمشق
واللاذقية وحمص وحلب وحماة وتعز وصنعاء واليمن السعيد ودرنة وسرت واللاذقية
وطرابلس وبنغازي وليبيا كاملة، والسودانيين شمالًا وجنوبًا وحلفا ودارفور وأم درمان
والأحواز وسبته ومليلة والإسكندرونة وبيروت وصيدا.... ودعوا الأقواس مفتوحة
مستقبلة.
وافتحوا
أقواس جديدة لتعداد خيام اللاجئين والمُهجَّرين والمقهورين والجوعى والأذِلّاء
والمطحونين، وأقواس أخرى لأطفالنا الأيتام والمُشرَّدين والمرضى والمعاقين
والمفقودين والمقتولين مع ترابهم وألعابهم والحواديت والحكايات والقصص، دعوا
الأقواس مفتوحة وزيدوها واصبروا على التعداد، لا تتعبوا، لن تستطيعوا حصرالأشلاء والأعضاء
والجثث، ولا تناموا، كيف تُغلق جفونكم؟ كيف تفارق عيونكم ومخيلاتكم صورة الطفل
غارقًا في دمه صريعًا، يخرج من أحشاء أمِّه المُدمَّرة، وحشرجة صوته تصمُّ آذانكم؟
أعربٌ أنتم من بني البشر؟، وتتعايشون تظنون أنَّ دوركم بعيد، وإن هي إلَّا بضع
سنوات ويقترب، مكانكم هناك في الخارطة المدنسة بألوان علمها البيضاء والزرقاء بحدود
النيل والفرات وكل ما بينهما، وكُلّ ما حولهما وكل ما يمكن أن يمُت بصِلة لحضارة
كانت يومًا هُنا عامرة، افتحوا الأقواس وانتظروا أنَّهُم فتحوا عكا، ويمرُّون الآن
فوق مكة والرياض والرباط والبحرين والامارات، وفي كُلّ الأرجاء سِرًّا وعلنًا، ومركز
العمليات والحوارات والاتفاقات والترتيبات والاتصالات دومًا في القاهرة حيث
الريادة والقيادة دائمًا، قلب العروبة النابض كان قد توقف فجأة على أثر سكتة قلبية
دماغية ليست مفاجئة!
هذا
وبكل اختصار هو مشروعهم المُعادي لوجودكم، وهو كما ترون على جثثنا أو فوق أكتاف
سلامنا ومؤخراتنا وخيبتنا وتمزقنا وتخلفنا ينتصر، ما الذي يمنع أن يظل هكذا ينتصر
إلى أن يعدم وجودنا؟ أو أن يكون وجودنا كما العدم؟، ليست إلَّا بضع سنوات قليلة في
الأونة الأخيرة شهدت كُلّ هذه الانتكاسات وتغيرت خريطة الوطن وتغيرت ملامح الإنسان
ومفاهيم الحضارة، والأفكار والأخلاق والسلوك والمضمون والشكل والمظهر، واعوجَّ اللسان
والكيان والقيم والأخلاق والثقافة والحضارة والتاريخ وأيّ، شيء وكُلّ شيء وبلا
استثناء.
فهل ما زال يمكن أن تكون هناك ملامح أو أفق
يمكن أن نراها أو نحاولها أو نرسمها أو إن نُفكِّر فيها لتغيير هذا الواقع، وإمكانية
الاستجابة لهذه التحديات والمصائب واعتبارها فرصة للبناء والانطلاق، إذ نُفكِّر
ونريد خلق وصناعة وإبداع أعمدة وأركان جديدة للمستقبل.
فهي في هذا الحال إذا أردنا بعزم وصدق وتصميم معركة واحدة جبهاتها أكثر من
متعددة، وأطرافها جدًّا متشعبة، وإنَّما أيُّ اختلاف فيها أو التفات عنها أو
اختلاق لغيرها من أيٍّ من تلك المعارك الوهمية واليومية المختلقة والكاذبة فهو
عندئذ جُبْن وهروب وخيانة لا محالة.
إنَّنا
نواجه صراعًا حضاريًّا ضارًّا، ومشروعًا متكاملًا مُعاديًا ومدعومًا من الداخل
بوعي أو بدون، ومن الخارج بكُلِّ وعي وإرادة وتخطيط وتصميم، إنَّ هذا المشروع
يستهدف وجودنا كاملًا وشاملًا، فإمَّا أن نستعيد وجودنا الحضاري، وإمَّا الضياع
والزوال والعدم، وإمَّا أن تستمر انتصاراتهم على الأرض وهزيمة الإنسان فينا في العقل
والفكر والإرادة والكيان والوجود، وليست تفاصيل المعاناة الحياتية واليومية في
كُلِّ جنبات وأركان مجتمعاتنا العربية وفي كُلِّ المجالات إلَّا نتائج مباشرة
ومقدمات لازمة لتفوُّق مشروعهم المُعادي لوجودنا نهائيًّا، وأنَّ استمرار مواجهته
بما نحن عليه من تخلف شامل فكأننا نُجهز على أنفسنا ونعدم وجودنا وفرصتنا الأخيرة.
ولا يمكن مواجهته مطلقًا إلَّا ببناء مشروع تقدُّمي
شامل في المقابل يبدأ بإعادة بناء الإنسان
العربي، ولزوم حريته وتحرير عقله وطرائق تفكيره مهما صعب الجهد أو لزم الوقت، ولا
يمكن أن تكون إلَّا مواجهة جذرية شاملة ومراجعة ذاتية كاملة لا تغادر شيئًا، ولاتنتظر
أحدًا على أن تبدأ منذ الآن وفورا.
فهل
ما زال يمكنك أن تظل هكذا منتظرًا؟
فيم
انتظارك؟ لن يُقدِّم أحد إليك شيئًا فلاتنتظر أحدًا ولا تنتظر شيئًا 0، ليس سوى أن تريد.
ما هي الخيارات؟ أمْ إنَّك تعدمها؟!
الجغرافيا
والتاريخ.. الزمان والمكان.. الماضي والمستقبل. ما الذي يمكنك أن تنتمى اليه؟ ما
الذي يمكنك أن تؤثّر فيه أو تُغيّره؟ ما هي العناصر الممكنة أو المتاحة للاختيار؟
متى
وأين يمكنك أن تريد فتكون، دون أن تكون كما العدم، أو تكون وحيدًا أو غريبًا أو
لقيطًا أو ممسوخًا مُشوَّهًا؟!
ما
هو قدْر وحجم مسؤوليتك أنت الآن عن كُلِّ تلك الأمور والعناصر والتفاصيل التي لم
تخترها أنت ولم تكُن جزءًا فيها أومنها؟ وإنَّما تنعكس عليك كُلُّ نتائجها، وما
الذي أصبحت أنت مسؤولًا عنه الآن منذ الآن وتتحمل كامل المسؤولية؟
ما هي مشكلاتك الأساسية والرئيسية، وما الذي يعوقك؟ وما ينقصك؟!
ما
الذي يمكنك تغييره والتدخل فيه والتأثير؟ الجغرافيا.. التاريخ.. النشأة.. الميلاد..
العالم.. الوجود.. الناس.. الثقافة.. الحضارة.. الزمن.. الماضي....؟!
مَن
تواجهه؟، ومَن معك؟ وأمام مَن يمكن أن تخوض صراعاتك وتنتصر في دروبك؟ أين يمكن أن
تثبت ذاتك وتُحقّق وجودك؟
متى
وأين وكيف يمكنك أن تصنع حياتك؟!
هل
يمكن أو يجوز أو يحتمل أن يكون هناك اختيار آخرغيرالمستقبل الذي تسعى والحياة التي
تريد، فيكون ميدان اختيارك الحتي الوحيد؟!
نستخرجه
من تحت ركام كُلِّ هذه الأنقاض، أو نبحث عنه ونستكشفه، أو نصنعه أو نخلقه خلقًا
ونبدعه، خطوة بعد خطوة، فكرة ورؤية، نملك الإرادة والقدرة والإمكانية والدافع
والحافز والباعث والأمل، ويمكننا أن نرسم خطة، ماذا نملك الآن؟، مقوماتنا وإمكاناتنا
وإمكانياتنا، نبحث عناصر القوة فينا فنعززها ونُمتّنها، ونواجه نقاط الضعف فينا
ونبحث ما ينقصنا ونستكمله في ذواتنا، ونرى كيف نقرأ الفُرَص فنغتمنها، وكيف هي التحديات
فنواجهها ونتغلب عليها وننتصر ونحولها إلى فُرَص ممكنة من جديد، خطوة بخطوة
والأولى ثمَّ الأولى، ونبدأ خطواتنا الأولى في خطتنا الجديدة بالزمن، باليوم
والساعة والشهر والسنة، وتدفعنا نجاحاتنا ونتقدم ونستمر ونُقيّم ونُقوِّم ونراجع
ونطور ونتقدم ونستمر، ونستطيع أن ننتصر وليس هناك نصر نهائي أو انتهائي، سنظل
حياتنا ننتصر.
نريده
مشروعًا للحياة حتى وإن جئنا به من العدم، لم يشهد الشباب في بلادنا أيّ إنجاز حقيقي
يُذكر، ولم يعايش أيَّ انتصار غير هذا الذي يسمع، ولم يتفتح وعيه إلَّا على
الهزائم والمصائب والانكسارات المتوالية والمُستمِرّة، ولم يعاصر من التجارب
والنماذج إلَّا تلك المعطوبة والفاسدة والظالمة، أو رُبَّما البليدة الخائبة
الخانعة المهزومة أبدًا بكُلِّ الححج والتبريرات العبثية، وهو شباب لم ينل حظه جيِّدًا
من تعليم معتبر بين العقول، ولا من ثقافة محترمة منتجه تُمكّنه من الوعي والمعرفة
والثقة، وتتراوح الأجيال بين الجهل والأمِّية، وبين الفهلوة والمعرفة السطحية
وقشور غير ذات نسق ولا أصول أو جذور، وما يصل إليه من تاريخه وتراثه مبهم مغلوط،
أكثر مِمَّا هو حقيقي أو محشو بما يُغيِّب المضمون، مختلط لا يمكن فرزه، مرتبط
بمراحل الانهيار والسقوط الأقرب إلينا زمنًا وفكرًا وثقافة، أكثر من ارتباطه
بمراحل الحضارة والنمو والنهوض، ويتعامل معه إجمالًا بالشكوك، هذا شباب يفقد الثقة
في تاريخه بقدر ما يرى الفشل في واقعه، والمظلم المجهول في مستقبله، هذا الشباب
يشهد ويعايش دون تحصُّن غزو غير مسبوق في كُلِّ جنبات عقله وأركان ثقافته عَبْرَ
حملات منظمة ممنهجة من الكذب والغش والتزييف والتشويه في أيِّ شيء وكُلِّ شيء،
وتستمر صدمته الحضارية دون انقطاع وبلا استيعاب، فلا هو استطاع فرز أصوله نقية
ينطلق منها ويطورها، ولا هو قادر أو قابل استيعاب واحتواء إنتاج حضارة الآخر
ونماذجه، فبات خليطًا مُشوَّهًا، مسخًا يتنازعه هذا وذاك منفسخًا، فلم يستقر على
قوام، ولم يحسم خيار، ولم يحدد انحيازًا، ولم يُقدِّم نفسه حقيقته وشخصيته، ولم
يستطع أحد أو لم يرد أولم يتمكن أحد أن ينقل إليه الفكرة والخبرة بقصد أو بغير قصد،
بالعمد أو بالمؤامرة، بقصد الهدم والاسقاط، أو بقصد هذه الحال من الميوعة والسيولة
بلا أيِّ لون أو موقف، أو بأيِّ قصد أو بقصد ذلك كُلّه، وإنتاج هذا الخليط المتباين
غير المنسجم، وعبر عقود طويلة من التجريف والتبوير الثقافي والقيمى والبوارالسياسي
والخلل الاقتصادي والاختلال الاجتماعي تم إنتاج محصلة مخلوطة مشوشة حتى وإن فاقت
يصعب جمعها على اتجاه أو اتفاقها على توجه، حتى وإن قامت كانت في اتجاهات شتى لا
تجتمع ولا يمكنها الوصول لشيء، وهو شباب يفتقد القدوة وكلها أمامه مهزومة أو
مظلومة، عميلة أو مأجورة، تابعة أو متخلفة، سلفية أو متغربة، ذاتية أو شللية لم
تستطع أن تنجز شيئًا اللهم إلَّا بقايا تراكمات لبعض محاولات واجتهادات لم تكُن في
أوانها، ولم تؤت ثمارها، ولم تسفر شيئًا .
هذا
شباب لم يكُن بعد كُلّ ذلك يمكنه أن يملك أملًا ولقد سُدَّت أمامه كُلُّ السُّبُل
حتى الحلول الذاتية والخلاصات الفردية لم يَعُد شيء من ذلك ممكنًا، وليس المسعى
هُنا هو البحث عن سُبُل العيش والزواج والحدود الدنيا الفطرية والطبيعية لحياة
البشر، والتكاثر والحفاظ على النوع كما البهائم، إنَّما البحث عن الحياة بقيمها
وقيمتها ورسالتنا فيها والمستقبل والعيش الإنساني الكريم السعيد بثقافة وحضارة
ورسالة ومستقبل وبناء وعدل وإعمار. أن نعيش كما الإنسان.
فهل ما زال هذا مُمكِنًا؟
إلى
كُلِّ مَن لم يتحمل المسؤولية، ويُقِر بالفشل في أيِّ موقع كان، وفي أيَّة مرحلة
وأيِّ زمان، وكُلِّ مَن لم يمكنه الإسهام في إعادة البناء:
لم
نعُد نريد شيئًا منكم، كفرنا بكم ولم نعُد نطالبكم، فقط دعونا نحاول أن نعيش، نريد
أن نحيا، هذه ثماركم، حصدنا كُلَّ نتائجكم، لم ينجح أحد، دعونا نُفكِّر بغير
طريقتكم ونمضي في غير طريقكم، دعونا نحاول أن ننجح.
نريد
لو نعيش حياتنا على عمقها وعُمْق رسالتنا فيها، نعيشها بسيطة سعيدة، نريد لو نعيش
أيامنا أجمل، نريد حيَّنا وحياتنا أفضل وبيوتنا وشوارعنا والميادين، نريد مجتمعًا
أفضل، نريد بلادنا أغلى وأعلى وأجمل، نريد إن نتعلم ونقرأ ونكتب ونُغنِّي ونسافر
ونعود ونسعد، نريد حياتنا أسعد، نريده كُلَّ يوم سعيد ونحن نسعى لمستقبل أجمل.
نريد
لو نعيد قراءة التاريخ، فهل في ذلك جُرْم؟
نريد
فرز الغث من الثمين، فما أثمن؟
وأنتم
من بقايا التاريخ ومن مشكلات الواقع، فما يمنع؟
نريد
أن نصل لما ينفع، فهل ينفع؟
نريد
أن نمارس كُلّ ما يمكن أن نعتبره من مظاهر الحياة كي نحيا، نريد الحياة في بساطة
وهدوء وسعادة، فهل لنا الحق في المحاولة؟
نريد
أن نخوض التجربة، أليس لنا الحق؟
نريد
أن نمضي في طريقنا بحرية آمنين، فهل يمكن؟
نريد
لو نزرع أشجارًا مثمرة على جنبات الطرُق وأمام بيوتنا، فهل يضُرُّ ذلك أحدًا؟
أو
نُقِيم مزارع صغيرة في أيَّة جنبات مهجورة، هل يُغضب أحدًا؟
أو
نُقِيم مصانع صغيرة تنتج حاجاتنا البسيطة، هل يعيق ذلك أحدًا؟
نريد
لو ننظف شوارعنا التي تحملنا بأنفسنا ونُزيِّنها بخُطانا، نمضي ونمرح، بشبابنا
نزهو، فلا تُلقوا مُخلّفاتكم فيها علينا، هل يُمْكِن؟
نريد
لو نُقِيم ملاعب صغيرة على أطراف المدينة نحارب فيها شيخوختنا المبكرة ونتنفس، ألا
نستحق؟ أم إنَّهُ كثير علينا؟!
ومجالس
صغيرة تجمعنا نتبادل أطراف الحديث معًا، فهل نُجرم؟
وما
دامت السياسة رِجْسٌ من عمل الشيطان، فلم نقربها ولا الاقتصاد وأحوال العباد، فقط نُفكِّر
معًا في المستقبل، فهل نُذنب؟
نريد
لو نُفكِّر بشكل آخر غيركم، هل يُغضب ذلك أحدًا؟
لا
تقتحموا علينا عقولنا، ولا تُشركونا عبثكم قهرًا، هلَّا تفضَّلتم؟
لا
نريد شيئًا منكم باختصار، نترفق بكم ونشفق عليكم، لكنَّنا لا نريد مشاركتكم مرحلة
الاحتضار، نريد أن نحيا. ألا يريد ذلك أحدًا؟
ولا
نريد أن نخوض معارككم، كُلّها هراء، خاسرة، مفتوحة كُلُّ الجبهات كُلَّ يوم،
وتتكلمون في كُلِّ شيء ولا تصلون لأيِّ شيء!
نريد
أن نقاطع أفكاركم ومنتجاتكم ودعاياتكم وطريقة تفكيركم وحواراتكم وأسلوب حياتكم
واستكانتكم واستسلامكم وتبعيتكم.
نريدها
قطيعة كاملة مع كُلِّ هذا وكُلِّ ما يُمثّل، فهل نقدر؟
وإن نستطع كُلَّ هذا فهذا شروع في حق مشروع لمشروع لنا مشروع. فقط دعونا
نمضي وسوف نمضي بعون الله إلى حيث نَصِل وننتصر.
المقاطعة أوَّلًا
ما
لم نقاطع كُلَّ ما هو قائم باعتباره نتاج دورة حياتية كاملة من التخلُّف المُستمِرّ
والمتجذر.فى مجتمعنا، فسوف يستمر بنا ينتج نفس المنتج باستمرار دون تغيير يُذكر
بما فيه نحن، فنحن بما نحن عليه الآن من نتائجه المُستمِرّة ومن مُخلّفاته الدائمة،
فهو يفرض علينا نمطه في الحياة والسلوك والتفاصيل وطريقته في التفكير، فنظل ندور
في نفس الإطار، نُفكِّر بنفس الطريقة، نستخرج نفس الحلول، نسلك نفس السُّبُل، نحصد
ذات النتائج، وهكذا نستمر بعجلة التخلُّف في الدوران باستمرار دون توقف وبلا
انقطاع!
فلنقطعها
أوَّلًا وقبل كُلِّ شيء، فلنوقفها فينا، فلتتوقف عندنا.
ما
زالت (الساقية) موجوده هناك في بعض القرى والأرياف، ومنها ما أصبح مزارًا سياحيًّا
في بعض المدن الكبيرة القديمة، وهي عبارة عن دائرة كبيرة على شكل ترس دائري نصفه
تحت الأرض في حفرة كبيرة حيث الماء ونصفه الآخر فوق الأرض، مركز تحيطه دائرة أكثر
اتساعًا، إذ يدور فيها الثور أو البهيمة مربوطًا في طرف الساقية بإحكام لئلَّا
يفلت منها، وكُلَّما يدور الثور، تدور الساقية، يتحرك الماء في الاتجاه المقصود
وهكذا، وهذا الثور أو البهيم مرحلة متطورة، كان قبل ذلك يقوم بدوره الإنسان، ولئلَّا
يتعب الثور أو الإنسان ويدوخ من فِعْل الدوران المُستمِرّ في اتجاه دائري واحد،
يضعون فوق عيونه غمامة حتى لا يبصر الدوران، وكأنَّهُ يسير كما الطبيعة إلى الأمام،
ويحدث أن يتعب الثور أو الحمار، لا بأس حينها من بعض الراحة وقليل من التبن
والأعلاف، حتى يتمكن الحمار من الاستكمال، إلى أن يمرض ويموت فلا بأس من الاستبدال،
على أن تستمر العجلة دائمًا في ذات الدوران وفي نفس المساحة وإن اتسعت بنفس الإنتاج
أو يزيد.
يتندَّر
بعض الصِّبية هناك عن حالات قليلة يتمكن فيها الثور من الإفلات ويشتهر بين بقية
البهائم على أنَّهُ ثور ثائر من فصيلة الثوار الأحرار، والويل له إذ يُكرِّر فعلته،
إذ ينزلون به أشد العقاب، وقد لا يخلو الأمر من بعض ألوان العذاب، ويتشدَّدون معه
ويُحكمون من حول رأسه ورقبته الأغلال، ويرفعون من فوق عينه الغمامة (يعنى هاتفضل
تدور وانت شايف كمان، واللي عندك اعمله، وأعلى ما في خيلك اركبه) وإذا لم تعُد تبدو
منه فائدة يستبدلونه بأيّ حمار.
فقد
لا يكفى القهر والاستبداد الموروث والقيود والأغلال المتعددة والمتنوعة التي تعانيها
وتتعايش معها منذ نشأتك على كُلِّ المستويات وفي مختلف المجالات، تحيطك في كُلِّ مراحل
حياتك والتي تحل محل القيود المحكمة على رأس الثيران ورقبتها أو الغمامة على أعين
الحمير، لأنَّهُ في بعض الأحايين يحدث أن تجد مَن يحاول الفكاك من هذه القيود
والبحث عن مسار آخر غير ذلك الذي يستقر عليه المجتمع راكدًا، أشكال التندر وألوان
العقاب والعذاب في مثل هذه الحالات أكثر ابتكارًا وتنوُّعًا، وقد تصل إلى حد
الحرمان من الدوران في نفس الساقية! واستبدال القيود والأغلال في الفضاء الرحب
بقضبان حديدية وأسوار ونافذة صغيرة تطل منها على (الحرية) التي لم تكُن تكفيك أو
تعجبك! (يعنى قول الحمد لله وتُوب، ونرجَّعك لحرية الدوران يا أيها....) فتخرج من
محبسك الصغير إلى ذلك السجن الكبير مترامي الحدود والأطراف المساحية والجغرافية، وإنَّما
إيَّاك أن تتجاوز هذه المساحة العقلية المرسومة والمُحدَّدة التي يدور في فلكها الجميع،
فلا تخرج عن قوانين الاستمرار والتكرار (والاستقرار) والحفاظ على النوع!
(واِحْمِدْ
رَبِّنا، احنا أحسن من غيرنا بكتير، والعالم كُلّه كده وأكتر من كده كمان، أصل دي
ظواهر عالمية، ولَّا عايزنا نكون زَيّ سوريا والعراق وليبيا واليمن ولبنان ولَّا المغرب
ولَّا تونس والجزاير، ولَّا مصر ولَّا الخليج، ولَّا موريتانيا ولَّا الصومال ولَّا
جزر، القمر كُلّه يعني...... من بعضه، يا عَمّ اِحْمِدْ رَبِّنا )!
قائمة
كبيرة طويلة لا تنتهي ولا تتوقف من الأكاذيب والالهاءات والسخافات والإشغالات، ومن
العته والسفه والعبث والجنون والخرافات والغيبيات وما وراء الطبيعة وما خلف وتحت
وفوق الميتافيزيقا، وفضل الرِّضا وكنز القناعة ونعمة وضرورة التسليم!
الهدف
واحد دائمًا: أن تظل دومًا على نفس الطريقة في نفس الدوران (دوران شبرا تغيرت
معالمه ومعظم الدوارانات في البسيطة حلَّت محلها كباري أسمنتية متسرعة سريعة،
يمكنك الدوران من تحتها أفضل، لا تقلق لن يتغير شيء، رُبَّما المسافة أطول قليلًا،
لكنَّهُ أفضل من الزحام، حيث يتيح لك ذلك سرعة الإنجاز في الدوران) انتبه، دائمًا عليك
الاستمرار، استمر دائمًا في الدوران.
ودائمًا
ما تدخل في متاهات دوامات كبيرة كارهًا مُكرَهًا قابلًا مُختارًا، اجتهد حتى تنجز
وتنهي ما نصطلح عليه مجازًا بتسمية التعليم، وسوف نتكفل حتى الاشتناق بنفقات الملابس
والأزياء والأحذية، وكُلِّ ما تحتاج إليه من الدروس الخصوصية والابتزاز واختصار
المناهج في الكتيبات وصفيحات الملخصات والمذكرات والانتقال والمواصلات ورسوم
الامتحانات ومصروفك اليومى لزوم الحاجات، وسنحتفل بتخرُّجك أيًّا كان، هيَّا نبدأ
رحلة البحث عن العمل، أين العمل؟، أيّ عمل؟، كلِّمْ فُلان، عايز كام؟، ثمَّ تحين
مرحلة الخطبة والزواج والأفراح والمعازيم والشَّبْكة بكام، والشقة التمليك لزوم
الأمان، والعَفْش والجهاز والديون والأقساط والجمعيات، فهذه طبيعة الحياة
والاستمرار كي تظل كما كُلّ الناس تعيش، ولا تنسى بطبيعة الحال حتمية وضرورة ولزوم
وجود (النِّيش) هكذا كما كُلّ الناس من قبلنا والذين كذلك هُم جميعًا مثلنا،
ويستمر الحال على هذا المنوال، ثمَّ مرحلة الحمل والولادة والأطفال ومدارسهم
وتعليمهم وهكذا كُلّ ما مررت به رُبَّما أحيانًا متمردًا معترضًا تريد تغييره، ها
أنت تعيد تكراره مشتنقًا مختنقًا، وتظل هكذا تدور ويعيد المجتمع نفس دوراته ودورانه
فيك وبك باستمرار ولا تستطيع الفكاك ولم تعُد تحاول، فمن أين يمكن أن تأتيك أفكار
أخرى وأنت مجبول على أن تُفكِّر بذات الطريقة ما دمت مربوطًا من أعماقك بالساقية
تمارس نفس الدوران باستمرار وعلى عينيك الغمامة، وتظل تركض ركض الوحوش في البرية
لمجرد أن تنال بكُلِّ ما يمكنك الاحتمال من المعاناة مجرد أدنى الحقوق الطبيعية
والفطرية في الحياة والتي لا تمثل أيّ طموح أو تميُّز أو تقدُّم، وإنَّما فقط
الحفاظ على النوع وعلى مجرد الاستمرار!
لا
شيء يمكنه أن يوقف هذا الاستمرار والتكرار إلَّا قرار وإرادة مقاطعته كاملًا وبكل
التفاصيل، كُلّ ما لا تريد، كُلّ ما أنت مجبر عليه ولا تختاره ولا تعرف لك فائدة
منه ولا تعرف لماذا تمارسه، كُلّ ما لا ينفعك وكل ما يضرك ولا تحبه ولا يسعدك،
كُلّ ما تعترض عليه وكل ما يؤذيك، لماذا تؤذي نفسك بنفسك؟، ما الحكمة في هذا وفيم
الأضطرار؟! كُلّ ما لا تُفكِّر فيه ولا ينسجم مع أفكارك، لست مضطرًا على شيء ليس
هناك ما أنت مضطر إليه إلَّا ما تختاره أنت، خلقك الله حُرًّا مُختارًا وسخَّر لك
الحياة بقدرته وأنت الذي تُسيِّر حياتك وتختار أقدارك، سبق علمه كُلَّ شيء، وأودع
فيك من روحه وقدرته وإرادته ومحبته لك ورحمته بك، ما تؤمن به أنت وتختار أنت، وأيّ
سبل تسلك وأيَّة طريقة تُفكِّر وأيّ طريق تختار وأيّ أعمال تأتي أو لا تأتي، كُلّ هذا
هو لك، هو بك، أنت مسؤول وحدك عن كُلّ هذا وإلَّا لماذا سوف يحاسبك؟!
أفلا تبصر؟! أفلا تعقل؟! أفلا تؤمن؟!
لك
ما شئت، أنت وحدك المسؤول عن نفسك وكل ما يعتمل في نفسك وكل ما تؤتي أو لا تؤتي
ليس هناك أحد مسؤول ويُسأل عن ذلك غيرك (كُلّ نفس بما كسبت رهينة)
الحرية
في المقاطعة.
لقد
كنت دائمًا مقيدًا مكبلًا، هكذا تعيش دائمًا وإن لم تشعر، أن تعيش حياتك كلها سجينًا
فتتصور بعد حين أنَّ الحياة هي السجن وأن ذلك السجن إنَّما هو طبيعة هذه الحياة،
إذ أنَّ الحياة أصبحت بالنسبة لك هي ذلك السجن الكبير، أن تعتاد القيود والأغلال
وتعيشها عمرك كُلّه وامتدادًا كذلك لمن سبقوك كثيرًا وطويلًا فلم تعُد تدرك أنَّها
قيود أو أغلال، وقد تتوهم أنَّك حُر وإنَّما داخل دائرة كبيرة وإطار مسلسل بالقيود
من كُلّ شكل ونوع، فأنت سجين هذا الإطار في كُلّ شيء، قضبان منيعة حصينة حول ذلك
الإطار، ولدت فيها ونشأت عليها وتربيت على قوانينها مذ كنت طفلًا صغيرًا ومع
أقرانك في مدرستك، وحين تكبر، تكبر معك القيود وتزداد وتتشدد من حولك القضبان، إلى
أن تصبح جزءًا منك، نسيج من عقلك وتفكيرك وتكوينك، وهكذا تكون هي الحقيقة أو أنت
هكذا تتوهم، فتحيا بها أبدًا وكل مَن حولك، بل وتدافعون عنها وتحاربون من أجلها،
فلقد باتت هي كُلّ التفاصيل والذكريات والأجداد والأحفاد، وتمضي في ذاتها مُستمِرّة
وكأنَّها الأهداف والغايات، ولم يَعُد شيء هناك خارج إطار هذه القضبان والقيود
والأغلال، ولم نعد نُفكِّر أن نحلها عن كاهلنا أو نغادرها كالذين على دين آبائهم
الأولين، وكأننا استبدلنا تلك الأصنام الحجرية بأوثان ومقدسات وأوهام صنعناها
بأنفسنا أو صنعت لنا خصِّيصًا في مرحلة من مراحل التاريخ لم نغادرها، أو تم
استيرادها لنا وفق مواصفات خاصة قياسية.
أسرى
العجز والتخلُّف وفي الطريق إلى السقوط والانهيار، أسرنا أنفسنا أم تم اعتقالنا أو
كليهما معًا، لا بُدَّ أن نعرف ونعترف لنتمكن من أن نجد طريقنا للحرية والتحرر
والخلاص، دقة التشخيص والتوصيف والفرز طريقنا للعلاج والاستشفاء والحرية، نعيش في الماضي
ونُفكِّر بالماضي بكُلِّ ما فيه من حشوات وإسرائيليات لعل فيها ومنها نبتت تلك
الأغلال، أو مشدوهين مشدودين لحضارة أخرى نعرف في أعماقنا إنَّما تريد دائمًا لتسلسلنا
دونما مهرب أو منفذ، بينما لا بُدَّ من الوعي والإدراك والاستيعاب والإدراك أنَّنا
إنَّما نعيش الآن ونعيش هنا، وأنَّنا لا نعيش هناك ولا نحيا في زمن ولَّى ومضى،
ونحن الذين يجب ويمكننا أن نختار ونفرز ونقرر كُلَّ ذلك، وكل شيء بعقولنا بتفكيرنا
بمستقبلنا وما يسعدنا وما لا يشقينا ويحزننا ويمرضنا، إن شئنا اتخذنا واستفدنا
وأنجزنا، وما لم نشأ فلنقاطعه ونمنعه ونحاربه ونصارعه ولا بُدَّ أن نهزمه، أنت إن قاطعت
ما لم تقنع وما لم يمتد بالضرورة فيك من ماضيك وما أنت لست بحاجة إليه وما هو محل
شك من كُلِّ هذا الذي يعوقك ويُعطّلك ويسلسل عقلك، وفي ذات الوقت تقاطع نهائيًّا
ما لم تقنع به من الآخر أيّ آخر وما لست بحاجة إليه ولا ضرورة فيه وكُلّ ما هو محل
شك وصراع مع قيمك ومعتقداتك ودينك وسلوكك وأخلاقك وحضارتك وفلسفتك، وكُلّ ما يهزمك
ويقزمك، فلن تظل مشدوهًا به مشدودَا إليه وكأنَّ فيه خلاصك! إنَّما خلاصك فيك أنت
في ذاتك وأنت إن شئت، هو لا يريده لك حتمًا، إنَّما يريدك هكذا دائمًا تعتمد عليه
لا يمكنك الاستغناء عنه، فذلك سبيل استمرار تقدُّمه وبقائه وتفوُّقه دائمًا عليك،
فأنت واحد من ضِمْن أسواق ومختبرات منتجاته وسِلعه وأفكاره، واستمرار حاجتك إليه واعتمادك
كُليًّا عليه هي سبيل استمرار هيمنته وسيطرته عليك دائمًا . أنت إذ تقاطع كُلّ هذا
وتختار فإنَّك تختار حريتك، وأن تكون حُرًّا أبدًا.
ليست هروب ولا انعزال ولا سلبية. المقاطعة
قوة ومواجهة.
فهي لا تعني أبدًا الانعزال والتقوقع ولا الهجرة والهروب، إنَّما هي قرار حُر
وقوي وشجاع، إنَّما ينجم من بعد فرط المعرفة والانغماس والتفاعل مع كُلِّ ما هو
قائم، ولأنَّنا نعرفه تمامًا عايشناه طويلًا وأصبح يعيش فينا، فأصبحنا نستوعبه
وندركه جيِّدًا، أفكاره وأهدافه وغاياته، ونعرف وسائله وآلياته وممارساته وخيباته
الدائمة، وأصبحنا نعرف كُلَّ ما يمكن أن يفضي إليه، ونعرف مسبقًا كُلَّ نتائجه،
فلم نعُد بعد ذلك نستسلم، ولم نهرب تاركين للواقع الانتصار علينا والاستمرار
واستلاب حقنا في تغييره وبناء مستقبل آخر نريده غير الذي يجرُّنا إليه، فهكذا نقرر
أن نقاطعه تمامًا، نقطع ونمنع كُلّ تأثير ضار له علينا، وإنَّما لم نغادره ونهرب،
بل نواجهه لننتصر عليه بأن نخلق لأنفسنا بموازاته عالم آخر جديد وحياة بطريقة أخرى
إنَّما هي تلك التي نريد، عالم جديد يقاومه ويكافئه وينتصر عليه، و لا يمكن في هذا
الحال أن يكون هذا انعزالًا، وإنَّما خلق عالم مواز تمامًا يراقبه بينما نعيش فيه
نخلق منه كُلّ بدائله، لكنَّهُ يوازيه لا يلتقي معه ولا يلاقيه، ولا يقف عند النقم
عليه والسخط والاعتراض والانتقاد، بل لا نهتم له ولا نتبعه ولا نتابعه لئلا يقودنا
مجددًا إلى الانقياد، وإنَّما عالم مواز تمامًا وقدر ما استطعنا كاملًا، المقاطعة
قرار قوي مستقبلي إيجابي شجاع بخلق البدائل وابتكار الوسائل وإبداع الحلول.
والمقاطعة حماية.
فلو
أنَّ الريح عاتية وهي كذلك، والأمواج جدًّا عالية وهي هكذا، وتقتلع الأعاصير
الهوجاء كُلّ أمل ممكن في البقاء، وأنت تريد أن تقيم بناءك الصغير وتحميه لأنَّهُ بعد
ذلك هو الذي يحميك ويأويك في واقع جديد من الانتصار والاستمرار، وأنَّك لا تملك
ترف الانتظار لأنَّ شيئًا من ذلك لن يتوقف، ألم تجتهد وتبتكر وتبدع كي تحوط هذا
البناء وتحميه وتُحصّنه بكُلِّ ما يمكنك، وتستطيع لتمنع عنه كُلَّ تلك الرياح
والأمواج والأعاصير، فالأمر كذلك تمامًا أنت بحاجة الآن أن تتحصن تمامًا بالمقاطعة
رُبَّما كاملة شاملة كي تحمي محاولة بنائك الجديد من كُلِّ تلك العواصف التي اقتلعت
وتقتلع وتبتلع كُلَّ محاولات كانت وكُلَّ محاولات سوف تكون.
ولو
أنَّ المحيط موبوء والأمراض منتشرة والعدوى متفشية، فإنَّ الخطوة الأولى للحماية
والحفاظ على البقاء إنَّما تكون أوَّلًا بالتحصين، فالمقاطعة في هذا الحال هي أولى
خطوات التحصين لوقف انتقال الأمراض واستمرارها، وايقاف نقل العدوى وانتقالها
ومحاصرة الوباء.
المقاطعة عملية إرادية مُركَّبة متوالية، وهي
كذلك باستمرارها متعددة النتائج، فهي من ناحية مصل الشفاء والمناعة والحماية، فإنَّك
حين تمارسها وتزيد وتوسع مساحتها فإنَّك تحاصر تلك الأمراض المنتشرة المتفشية من
حولك، وباستمرار عملية التحصين تلك تخطو خطوات واسعة مُستمِرّة في اتجاه بناء جدار
عملاق من الإرادة الفولاذية يُمثّل باستمراره وارتفاعه شاهدًا على قوة الإرادة
وقدرة الاستمرار والانتصار، فإنَّهُ ومن ناحية أخرى سوف تشهد بنفسك انهزام وتساقط
المعادين ومنتجى الفساد تباعًا من حول هذا الجدار الذي شيَّدته، فهذا السلوك
الواعي الإرادي باستمراره وفي خطوات متلاحقة ينجز نتائج متعدده متعاظمة، ستجد
أنَّك إنَّما تنتصر على شبكة فساد ومصالح واسعة في الداخل والخارج مترامية الأطراف
متعددة الأهداف والوسائل، خبيثة الخطط والبرامج والآليات مرتبطة بالكثير من
العناصر والمصالح والأطراف والممارسات، تحقق الكثير من النتائج المتداخلة هدفها
النهائي هو دائمًا استمرار السيطرة عليك. فشبكات الهيمنة والاستغلال من الخارج لا بُدَّ وأن
يكون لها ارتباطاتها ووكلاؤها وعملاؤها في الداخل، ليس فقط وكلاء وموزعون ومنتجون
ومعلنون وبائعون وراشون مرتشون وفاسدون مفسدون، وإنَّما هي بحاجة دائمًا لأصحاب قرار
ومسؤولين، ولمُشرِّعين لإصدار اللوائح والقوانين وتمريرها والالتفاف عليها ومن
حولها وسلطات لإنفاذها، وتلك طبقة لا بُدَّ لهُم دائمًا من خلقها ورعايتها
وتمتينها وحمايتها وتسلحيها بكُلِّ ما يلزم من إمكانيات وسُلطات، فحيث هي بحاجة
مثلًا للترويج الإعلامي والإعلاني فلا بُدَّ من بث أقمار وفتح قنوات وفضائيات وإذاعات
وتدريب العاملين بها وربطهم بمصالح معها لخلق أبواق دعائية تدافع عن مصالحها التي تصبح
بعد ذلك مصالحهم الذاتية أيضًا، وهكذا تتمدد هذه الطبقة وتنتشر في عموم المجتمع. وكُلُّ
هذا لا يتأتى في يوم وليلة وإنَّما يلزمه علاقات ومصالح وتوجهات ومراحل وتخطيط لإنتاج
منظومة متكاملة وخلق مجتمع الفساد والتبعية والاستغلال، جهود شيطانية كبيرة وخبيثة
بُذلت، وخطط على مراحل متوالية وولاءات كانت لازمة لبناء مثل هذا المجتمع وأنفقت
عملات وعمولات كبيرة نقدية وعينية وأثرية بطبيعة الحال والمجال في سلسلة متواصلة،
بدءًا من خلق التوجهات سياسية كانت واقتصادية منفتحة جدًّا واجتماعية منفتحة أيضًا
ومنفسخة، وتجنيد وتدجين وصناعة النماذج مرورًا بالتشريعات والقوانين والفنانات
والفنانين والإعلام والإعلاميين..... وانتهاءً بمختلف شرائح المستهلكين من تلك
السوق الكبيرة المتنوعة والتي يمكنها ابتلاع كُلّ شيء وأيِّ شيء بما يشمله ويحتويه
من سُمٍّ زعاف.
وعَبْرَ
كُلِّ هذا وأثناء ذلك وخلاله يمكننا ابتلاع أوهام السلام والرفاهية والرخاء مع إسرائيل
الصهيونية اللقيطة على أن تتعايش بيننا، ونُقيم جسور المحبة والتعاون معها! إلى أن
نصل إلى التبعية والإذلال، وكل ذلك بالرعاية والزواج من أمريكا الصديقة والحليفة
التي تُسلّحنا وتحمينا وتُطعمنا وتُغذّينا وترعانا وتُحافظ علينا وعلى تقدُّمنا
ورخائنا، وتُعلّمنا القيم وقيمة التسامح والأخلاق النبيلة، وتدافع عنَّا وعن حقوق
الإنسان فينا، وترعى مصالحنا وتدفئنا في الشتاء وفي قيظ الصيف تُكيِّفنا، وترشدنا
إلى صحيح الدين دون تشدُّد أو تطرُّف لا سمح الله، وتُطوِّر مناهج التربية
والتعليم لأطفالنا المساكين، وتُعلّمنا التعايش والتسامح وقبول الآخر حتى الأخر!
إذ
تُقاطِع وتمضي في الطريق منتصرًا، تتكشف أمامك تباعًا كُلّ عناصر هذه الشبكة وكُلّ
دعائم هذا المجتمع، وسيبدو ذلك جليًّا أمامك عَبْرَ تساقطهم واحدًا تِلو الآخر،
حين تمارس المقاطعة جادًّا مؤمنًا مقتنعًا تُحدِّد لها القواعد والأسس، وتبتكر
الوسائل والأساليب والبدائل وتُطوِّرها وتوصلها بقوائم درستها وتفحَّصتها بدقة، فإنَّهم
حتمًا يتساقطون، فهُم لا يتعايشون إلَّا على حساب غفلتك.
نتكلم
عن الفساد ونعرف الفاسدين والمفسدين، نعرفهم بأسمائهم وصفاتهم وشركاتهم وشركائهم،
فلماذا نتعامل معهم ونشتري منتجاتهم أيًّا كانت، ونزيد في أرباحهم وننعش قنواتهم
ونتعايش مع مجتمعاتهم ونتبادل عنهم وتشغلنا تفاهاتهم وأخبارهم! لماذا لا نقاطعهم
مقاطعة شاملة بكُلِّ ما يُمثّلون ويعبرون ونهملهم ونهمل كُلّ تفاصيلهم ونسقطهم
تمامًا من اعتباراتنا وحياتنا ووجودنا، فهُم غير موجودين بالنسبة لنا، نحاصرهم، نُعظّم
خسائرهم وفضائحهم وهى بيِّنة، نفصل بين وجودهم ووجودنا، نعدم أيَّ أثر لوجودهم
بالنسبة لنا.
السلعة
لا تُمثّل ذاتها لذاتها، هي مقصودة، وهى تعبير عن فلسفة وسلوك واحتياج إمَّا طبيعى
مخلوق أو مصطنع يخلق فيك الرغبة فيه، وهي كذلك بالذات حين لا تبدو منك الحاجة إليها،
وبالتالي لم تكُن مبتكرها أو مخترعها
لحاجتك لها، وقد لا تكون لك القدرة على إنتاجها، وكُلُّ سلعة منقولة إليك
بالاستيراد والاستعباط تنتج أثرها فيك وفي نمط تفكيرك وفلسفتك وسلوكك وفي ثقتك
بذاتك وبلادك وقدراتك وطريقة تفكيرك وتقييمك للآخر، والآخر بين عدو وصديق، ويجب
هُنا الانتباه جيِّدًا، وفي كُلِّ الحالات هو يسعى للربح من خلالك من خلال شرائك
منتجه أو على حساب دعمك له أو تبعيتك وفقدان إرادتك واستقلالك، وعليك دائمًا يقع
الاختيار أفرادًا وجماعات ومجتمعات.
الأمر
أوضح وأبسط رُبَّما في حال كان القائمون على الأمر يملكون من الوعي والثقافة
والبصيرة ووضوح الرؤية وصدق الانتماء، فيكون عامًّا بخيارات جماعية مجتمعية
وبتوجهات وسياسات وقوانين تحمي إمكانية الصناعة الوطنية والثقافة القومية والأخلاق
والسلوك العام، وكلما كان عامًّا وجماعيًّا يفرض الاستقلال والندِّية بما لا
يجعلنا لقمة سائغة وسوق نهمة شرهة كبيرة الاستجلاب والاستهلاك والاستحلاب لكُلِّ من
هَبَّ ودَبَّ دونما فرز أو تمييز، فتبقى الناس أفرادًا وجماعات فريسة سهلة لوحوش
الغابات والمنتجات والإعلانات وخلق الحاجات والترويج لها دون احتياج ولا هدف دائمًا
إلَّا تحقيق الأرباح ولو على حساب كُلِّ القيم والأخلاق والمعتقدات.
لكنَّ
الأمر ليس بهذه البساطة حين لا يكون توجُّهًا عامًّا وسياسة غالبة حاكمة فيترك
للاجتهادات والأفراد ووعيهم وثقافتهم ومحاولاتهم ومعاناتهم في شرح الأمور وتوصيل
الأفكار وجدوى المقاطعة وتأثيرها ومحاولة الإقناع بها وعظيم نتائجها، وتزداد
الصعوبات كُلَّما أردت أن تُوصِّل هذه القناعات دون قدرة أو إمكانات وسُبُل ووسائل
في مواجهة إمكانيات الدولة وإعلامها وإعلاناتها التي لا تتوقف، إلَّا أنَّ الشباب
بما يملك من قدرة وإرادة إذا أراد ذلك واقتنع أن يحمي نفسه ويوقف ما هو قائم يمنع
دورانه واستمراره فيه، فيحاول الفكاك والانفلات من تلك الساقية التي تلف عنقه
ورأسه فيوقف دورانها بما يملك من أدوات هو
الذي استحدثها، ويملك التفوق في قدرة التعامل معها وخلق البدائل وابتكار الوسائل حيث
لا بديل عن ذلك برغبة في بناء المستقبل من تحت هذا الركام المتزايد.
حين
إدراك المقاطعة هكذا كخطوة هامة جدًّا وضرورية فتكون ثقافة ونمط في التفكير وأسلوب
حياة يقاطع كُلَّ مالايلزم، يقاطع كُلَّ ما هو ضار ولا فائدة منه ولا حاجة إليه،
ويقاطع منتج وثقافة وقيم وأخلاق الأعداء من الخارج، والتابعين والمحيطين والمنتشرين
في الداخل، فهذا يوقف سيل أرباحهم واستقوائهم من جانب، ونزيف خساراتنا وإرادتنا
على الجانب الآخر.
الأمر
هو مقاطعة دورة كاملة عقيمة تعيد إنتاج كُلِّ شيء بنفس الطريقة في كُلِّ مرة، فإذا
كانت نفس المقدمات تؤدِّي لنفس النتائج فكيف يمكن الاستمرار في نفس المسار
والدوران في نفس الدائرة! أفلا يجب قطعها، وقفها، مقاطعتها والقطيعة معها، حين
يكون ذلك كذلك فهو إيذان بميلاد جديد لا بُدَّ من البحث عنه، من خلقه وصنعه
وابتكاره وإبداعه والتمسك به والتشبث بمنشئه.حياة جديدة، سلوك يومي في كُلِّ الجوانب
وفي كُلِّ المجالات وعلى مختلف الأصعدة، يدقق التفكير في خياراته في كُلِّ جنبات
حياته، في دقائق ولحظات يومه وحاجاته واستخداماته وصولًا لأهدافه وغاياته، حينها
تكون المقاطعة سلوك سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي وإنساني عام.
أنت
تقاطع الآن كُلَّ تلك الممارسات العقيمة والتي لم ولن تُوصِّل إلى شيء، ومنها ما يُسمُّونها
سياسية، وقد جرَّبوك واستغلوك وتاجروا بك، وحشدوك بمناسبة ومن غير مناسبة زيادة في
الكم والأعداد، مباهاة بالشباب والصِّياح على أهميته والاهتمام به والتوجُّه إليه وتمكينه
وتمتينه ورُبَّما القصد تدجينه، فما الناتج في الواقع وكيف هي الممارسات ما بين
العجز والإفلاس والانتهازية السياسية والخواء، فعبث هي كُلُّ المحاولات البائسة إذ
تحاول أن تُصدِّق يومًا وتُكرِّر التعامل مع الأمر علَّه ينجح، أو أنَّ أحدًا قد
تعلَّم، فلا أحد يتعلم أو يحاول أو يجدد ما دام يدور مربوطًا في نفس الساقية فلا
أمل يرجى، وكذلك صحفهم وأخبارهم وكل وسائل إعلامهم وبرامجهم وخطابهم وطريقتهم عهر
وكذب ما بين استهزاء بالعقول وإفلاس وادِّعاء!
أنت
إذ تُقاطع إذن تُقاطع نمطًا وسلوكًا في الحياة، طريقة في التفكير، أسلوبًا أثبت
فشله وعجزه وتخلفه، فأنت ما لم تُقاطع حياتهم برُمَّتها وكُلِّ نتائجها التي أصبحت
تعلم فهذا إصرار وتكرار لعجز أكبر ينتج تخلفًا أكثر وفشل مُستمِرّ يتكرر ويزيد ولا
يتغير! نقمة التقليد دائمًا وفي كُلِّ الأحوال
والمجالات ستظل تحول بينك دون الوصول إلى نعمة الخلق والابتكار والتجديد والإبداع
في مختلف الحقول وعلى كُلِّ المستويات.
أنت
إذ تتخذ المقاطعة الشاملة لهذه الدورة الحياتية الفاشلة الآن فلسفة مستقبلية
وثقافة وسلوك كامل في المقابل، فأنت قد اتخذت الخطوة الأولى الناجعة لوقف هذا
النزيف المُستمِرّ للطاقات والقدرات والإمكانات الكامنة فيك، وقطعت هذه الدائرة
عنك وخرجت منها سالمًا بعقلك، فالأن يمكنك أنت أن تُفكِّر بغير ضغوط أو قيود أو
تكرار، وأنت حينذاك مركز حياة دائرة جديدة وأفكار جديدة لحاجاتك واحتياجاتك
وغاياياتك وأهدافك ثمَّ تفاصيل خطواتك في اتجاه حياتك أن تريد أن تحياها بسعادة،
فأنت دائمًا يمكنك أن تكون مركز دائرة حياة جديدة إن تُرِدها سعيدة، إنَّما من
خلقك أنت وبك أنت.
المقاطعة
ليست عملية بسيطة كبساطة الكلمات، فهي عملية مُعقَّدة مُركَّبة ترتبط بسلوك عقائدي
إرادي ناتج عن قوة في الوعي والإرادة والعقيدة، ولا بُدَّ أن يحقق مصلحة وفائدة دائمًا
وإن كانت النتائج لا تكون سريعة أو قريبة، ولا ترتبط العملية فقط بذاتها وإنَّما
تظهر نتائجها أكثر بما يكون بعدها، حيث خلق وصناعة وعيش البديل الكامل. سوف تجد
نفسك أمام قائمة طويلة، فكيف تحددها أساًسا؟ بالمنتجات والسلع والخدمات وما يمكنك
الاستغناء عنها؟، أمْ بمنتجها ومصنعها ومؤدِّيها؟، أو بقدْر حاجتك الضرورية لهذا
أو ذاك وعدم توفر البديل؟، أو بقدر قدرتك الاستغناء عنها وإرادتك في إنفاذ ذلك؟،
وفي كُلِّ الأحوال يرتبط الأمر بوعيك وقناعاتك وإرادتك وقدرتك على إنتاج البديل
الأنسب، أو إيجاد البديل الأفضل. فالقائمة طويلة ولا تخلو من الصعوبات والتعقيدات,
وأحيانًا أخرى من التفاهات والتفصيلات، لكنَّها في كُلِّ ذلك إنَّما تُمثّل في حقيقة
الأمر صراع إرادات قوية عملاقة، فهي إذ تصبح شيئًا فشيئًا وبابتكار الوسائل
والأساليب والبدائل عملية جماعية متزايدة متصاعدة، يتأجج معها الصراع وتشتعل
المعارك الإرادية الكبرى، فتجد نفسك مُتوَّجًا بالانتصار على نفسك وماضيك، وعلى
شركات عابرة للقارات تُمثّل دولًا عظمى وإمبراطوريات، وقد تُسقِط حكومات وتُغيِّر وزارات،
فالمعركة كُلُّها بالأساس تدور من حولك وحول مَن يحصد الأرباح من دورة الحاجات
والمنتجات.
إن
شئت فمن حولك وفي كُلِّ تفاصيل يومك كثير جدًّا من الأمثلة، فهذا منتج تشرُّبه أو
تأكله أو تلبسه إنَّما لست أنت صانعه أو مُنتِجه، فإلى أين يذهب كُلّ حصاده؟، وأين
يمكن أن يذهب جهدك وفكرك ومالك واستثمارك؟ وأين يمكن أن يذهب نتاج كُلِّ ذلك لو
أنَّك اجتهدت في خلق البديل؟، كم يمكنك أن تربح؟، وكم هي الملايين التي أوقفت
تسريبها وتهريبها وخروجها من بين يديك ومن بلدك وأعدت دورتها واستثمارها مجددًا في
أرضك؟، كم فرصة عمل وفَّرت؟ وكم أيدٍ عاملة أشركت في أيَّة عملية كانت مهما بدت
صغيرة أو مستحيلة؟، وإنَّك فوق ذلك كُلّه دعمت وأنميت تلك المعاني والقيم العظيمة في الوطنية والقدرة والإرادة،
فحيثما تُوقف شركة معادية أو أحد فروعها فأنت في نفس الوقت تنمو فيه بشركتك
الوطنية التي أسَّستها وتعبت عليها أنت وأنجحتها وانتصرت بها على شركات معادية أو
وكالات فاسدة عملاقة، وحين تكون هذه فلسفة جديدة وعقيدة يُجمع عليها الشباب في أمَّتك
فهُم سوف يدعمون منتجك كما أنَّك سوف تدعم كُلَّ منتجاتهم وهكذا يمكن أن يصبح هذا
اقتصادًا بديلًا جديدًا في طريقه لخلق مجتمع جديد، فما قدر الإحساس بالعزة
والافتخار حين تنفض هذه الأمَّة عن نفسها مشاعر العجز والانكسار والاستهزاء بها
والهزيمة.
بناء
متصاعد جديد يعتمد على الذات في كافة المجالات، نسق خلَّاق جديد قوامه الفكر
والثقافة والقيم والإرادة الجماعية الشابة في إطار مُنظَّم يلتزم القانون والقيم
والأخلاق، يُقدِّم نموذج جديد بديل لحياة إرادية جديدة دونما مأخذ من أيّ نوع أو
كائن كان.
وقد ترى هذا مثاليًّا أو خرافيًّا أو مستحيلًا،
ذلك أنَّك ما زلت تدور في نفس الدائرة، مربوطًا في نفس الساقية القديمة، ولم
تقاطعهم بعد وما زلت تُفكِّر بنفس الطريقة، وإنَّما وبعد المقاطعة، وحين تتحرر
ويتحرر عقلك وتفكيرك ويعمل خيالك وتدور أفكارك تستخرج طاقاتك. وإمكاناتك وتفكر
ثمَّ تقرر، فلِمَ لا؟، ما الذي يمنع؟، هذا إن كنت تريد، فماذا تريد؟ وكيف تحقق؟
وماذا ثمَّ؟ لماذا تنتظر؟!
أنت مركز الكون والوجود وكُلُّ ما مِن حولك
محيط.
وكُلُّ الدوائر إن شئت لو تعلم فأنت إن أردت
تكون مركزها.
فالمرء من حيث يوجد لا من حيث يولد.
والإنسان حيث يثبت لا من حيث ينبت.
وأنت إن تؤمن مستخلف في الأرض من خالقها وكُلّ
العالم والوجود.
لم
تكُن مسؤولًا عن شيء مِمَّا مضى، بل لعل الماضي هو المسؤول عمَّا آلت إليه كُلّ الأمور،
لكن الماضي انتهى ولن يعود، لا يمكنك إعادته والعيش فيه إن أردت، ولا يمكنك أن تستدعيه
كي تحاسبه لأنَّهُ امتد فيك فيما أنت عليه، ولعلك كرهت أو تكره أن تكون قد ولدت
هكذا ونبتت هكذا فأصبحت ما أنت عليه، عربي سلفى ماضوي جاهل متخلف، انقطعت عنك
حضارتك وتعيش على حضارة الآخرين، في نزاع مع نفسك وتشرزم وتمزُّق وتفسُّخ! لكنك
تكره من فرط وقوة انتمائك ولا تريد أبدًا أن تكون هو ما أنت عليه الآن، إنَّما تريد
أن تكون كما تريد أنت، حُرًّا مُتقدِّمًا مُتنوِّرًا تبدع في خلق المستقبل مواجهًا
كُلَّ تحدياته منتصرًا تُقدِّم نفسك للعالم كالنموذج الذي تريده أن يكون، يقينك أنَّ
لديك ما تقدمه للبشرية وأنَّ هذه رسالتك وتريد أن تبلغها عَبْرَ كُلّ الطرُق وبكُلِّ
الوسائل، وأن تكون نموذجًا في كُلِّ شيء وفي كُلِّ مجال وعلى أيِّ حال، وهذا هو ما
يمكنك وهو ما أنت أصبحت مسؤولًا عنه الآن منذ الآن، يمكنك أن تجد نفسك فتوجد نفسك،
سوف لا يمكنك أن تُغيِّر ميلادك ونشأتك، وإنَّما يمكنك أن تُغيِّر حياتك وتصنع
مستقبلك، فتكون حيث تريد أن تكون من حيث توجد، لا من حيث تولد إذ تُغيِّر ما هو
ممتد فيك، فيمكنك أن تكون من حيث تثبت وتثبت ثمَّ تنبت نبتًا آخر مختلف عن ذلك
الذي كنت فيه قد نبت، فتكون حيث تثبت إن أردت. وأنت لهذا قد خُلقت.، والأمر لك. فالحرية، المقاطعة من أجل الحرية، حرية العقل وطريقة
التفكير.
أنت
الآن إن استطعت يمكنك أن تبصر بطريقة أخرى، وترى الأمور كُلَّ الأمور بنظرة مختلفة،
إذ تُحرِّر تفكيرك من قيودهم، ولم تعُد ترى أو تُفكِّر كما البيئة من حولك، فلم تعُد
تؤتى سلوكهم وتصرفاتهم التي اعتادوا عليها ويُكرِّروها لأنَّك قطعت اعتيادك طريقة
تفكيرهم.
وأنت
الآن حين تؤمن بالله أوَّلًا، فإنَّك سوف تؤمن بطريقة أخرى، لأنَّك سوف تكون ولا بُدَّ
قد كفرت أوَّلًا، سوف لا تؤمن مثلهم بالبطاقة أو بالوراثة أو بالاعتياد والتقليد،
فإنَّك كي تؤمن بالله لا بُدَّ أن تكفر بالطاغوت، وتكفر أن تعبد غير الله إلاهًا
واحدًا، وتكفر أن تعبد الأصنام والأوثان أيًّا كانت ومن أيّ نوع كان، تمثالًا أو
عجوى أو حلوى أو عادات أو أعرافًا أو أفكارًا مُؤلَّهة أو تخلُّفًا وجمودًا وسكونًا
وتوقُّفًا، أو أن ترى نفسك والإنسان على غير ما خلقه وأراده الله، وأن تكفر بأن
تقبل لنفسك أو على نفسك وكُلِّ الإنسان بأيِّ ذُلٍّ أو هوان، سترى نفسك عبدًا لله
وحده جميلًا في وجود كامل من حولك، تراه وتُغيِّره وتصنعه وتخلقه وتبدع كُلّ ما
يمكنك فيه جمالًا بحُبٍّ وسعادة.
سترى
الله والدين والإيمان كما تشعره أنت وتُفكّر فيه، تحب الله وتخشاه، لأنَّهُ يحبك
إذ خلقك وسخَّر الوجود من أجلك، يرجو رُقِيَّك وسعادتك إذ تسعى، ويخاطب فيك عقلك
ويعلى من شأنك وإرادتك ومسؤوليتك فاستخلفك تتحمل الأمانة وتؤدِّي الرسالة ويريد أن
يعينك عليها فأرسل لك رُسُله وكُتبه لتعقلها هداية وعونًا ورُشدًا، يريد أن يسعدك
ولا يشقيك فتُعمِّر الأرض وتقيم العدل، فتجعل من الأرض جنتك لإسعاد البشرية، وذلك
هو السبيل لنعيم الآخرة، وإنَّما هذا طريق صعب شاق (لقد خلقنا الإنسان في كبد)
لذلك كانت الرسل والكتب والدعاء والرجاء للهداية والعون والتوفيق دائمًا لمَن يسعى
فيرقى فيكون له حصاد سعيه ورُقِيِّه، ولذلك كانت نعمة العقل في خلقك تبحث وتُفكِّر
وتجتهد وتجاهد وتصل وتسعد وتحمد وتشكر على ما وهبك الله من نِعَم، وما أنعم عليك
به من حياة وتجارب وإرادة وقدرة ورؤية وبصيرة وتمييز، لا لم يخلقك الله كي يشقيك
ويُعذِّبك ويحرمك ولم يُوكِّل أحدًا ليُحرِّم عليك حياتك بقائمة طويلة مطولة من
المُحرَّمات يضيفون إليها كُلَّ يوم بحسب أهوائهم، فالحلال بيِّن والحرام بيِّن ولا
يحل لأحد أن يُحِلَّ حرامًا أو يُحرِّم حلالًا، والأصل في الحياة الإباحة ولا
تحريم إلَّا بنص، ولست وكيلًا أو رقيبًا أو حسيبًا على أحد، وليس عليك إلَّا البلاغ،
وإن أنت إلَّا نذير، وقولوا للناس حُسْنا، وادْعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة
الحسنة، ولم يرسل الله رُسُله وأنبياءه كافة إلَّا مُبلِّغين ومنذرين، ولم يحملوا
الناس كرهًا ولم يحملوا سوط عذاب أو عقاب، ولمَّا أحزنهم إعراض الناس، طمأنهم الله
وهدَّأ روعهم إنْ عليهم إلَّا البلاغ، وإنَّك لا تهدي مَن أحببت، وإنَّك لا تُسمع
الموتى ولا تُسمع مَن في القبور، وكُلُّ نفس بما كسبت رهينة، ولكُم دينكم ولي دين،
فالإنسان كُلُّ الإنسان كُلُّ خلق الله حُرٌّ مُختار. وهذه حكمة أنَّ هناك دنيا
وآخرة، وأنَّ هناك ثواب وعقاب في الدنيا وفي الآخرة، فأنت تحب الله وتعبده وتخشاه
إن آمنت بمحبته وقدرته وعظمته وقوته وجبروته ليس كمثله شيء. تخلو لنفسك، تذهب لتُصلِّي
ليس رياءً وليس عادة اجتماعية أو موسمية، لكنَّك إذ تحبه تطيعه وتريد أن تلقاه
طاهرًا متضرعًا تشكو إليه همومك وأحزانك وضعفك وقِلّة حيلتك، وإعراض الناس وسوءاتهم
وظلمهم وجهالتهم وتخلفهم، وتبوح إليه وحده بمحبتك وتوبتك وأمنياتك ورجواتك، وتطلب
منه كُلَّ ما لايستطيعه غيره ولا يعجزه شيء، وتسأله أن يعينك وترجو عونه وتوفيقه
ورضاه ومحبته وجنته، وأن يوفقك لأن تعمل لها، ويمنُّ عليك بالصلاح والهداية والأعمال
الصالحة النافعة والزكاة والإحسان والصدقات كي يجزيك عنها خيرًا، لدرجة أن تبسُّمك
في وجه أخيك صدقة، فلا تحزن ولا تعبس ولا تيأس من رحمة الله أبدًا، ولا تظن يومًا أنَّك
تفقد الطريق إليه، فإنَّهُ برحمته التي تسبق عظيم قدرته لا يغضب عليك أبدًا، ولا
يخرجك من رحمته وينتظرك ويدعوك إليه، يناديك مع كُلّ آذان الله أكبر، ومهما كانت
قد بلغت ذنوبك ومعاصيك فلا يغلق أبوابه أمامك أبدًا، ودائمًا ما ينتظر منك أن تُعمل
عقلك فيهديك رشدك وينتظر توبتك مُحِبًّا غافرًا (قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم لا تقنتوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنَّهُ هو الغفور
الرحيم). صدق الله العظيم س الزمر فأنت إذ تذهب لتُصلِّي فلأنَّك تريد أن تُصلِّي
كما هو يريدك ويزيدك إليه تقرُّبًا ومحبة، وهو أعلم بك منك وأنت أقرب إليه، وأن
مآلك كُلّه إليه لكنَّك لا تعلم متى.
فإنَّك إن أردت فاعلم أنَّهُ دائمًا معك وسوف يُسخِّر لك مَن يكون بجانبك. أمر
الله موسى أن (اذهب إلى فرعون إنَّهُ طغى) فطلب موسى من الله عون أخيه هارون،
فأعطاه الله، وأعانهما وذهبا، وأسقط فرعون.
إن
تُرِدْ الحرية فإنَّ الدين هو الحرية، إن كنت مع خالق الخلق ومالك المُلك فمَن
تخشى وتتبع بعد. لا تخشَ بعد ذلك إلَّا من نفسك على نفسك، فاسعَ ما استطعت وخُذ
بأحسن الأسباب التي تعرف وتجتهد وتبحث، واطلب العون من الله، فإنَّهُ وحده القادر
عليه.
ما
أجمل أن تأمل في فجر كُلِّ يوم جديد وتتأمل، وما أجمل التفكُّر أوقات السحر، دعهم
يغطُّون في نومهم حتى عصر كُلِّ يوم أو حتى الظهيرة في حظائرهم في حياتهم القديمة،
أمَّا أنت فابدأ مع كُلِّ فجر، فجر يومًا جديدًا وحلمًا جديدًا في حياتنا الجديدة،
كُلُّ العالم بين يديك، كيف تُفكِّر وتُدبِّر؟ وماذا تريد؟ وماذا يمكن أن تنتظر؟
غير أن تحقق غاياتك والآمال في كُلّ حال ومجال وتنتصر وتتقدم وتفتخر.
وأنت
الآن إذ تحبها وتتحابا وتملأ جنبات حياتكما الأحلام والسعادة، فلا يمكنك إلَّا أن
تراها شريكة كاملة، ملأت عليك عقلك وقلبك وفؤادك، كما أنَّك أصبحت وبنفس القوة
اختيارها، لقد اخترتما معًا أن تستكملا معًا الحياة كُلَّها، وأن تخطوا معًا كُلَّ
خطواتها في الطريق لبناء السعادة دائمًا، لتسنكا إليها وفيها وتتوحَّدا، كيان جديد
جميل سعيد، تتقاسما وتتشاركا كُلَّ الحياة، ليست هي أنقص منك شيئًا ولا أنت أكمل،
أنتما معًا و دائمًا سبب ونتيجة، عونك هي كما أنَّك عونها، شركاء تبدآن وتبنيان
وتحصدان معًا، أنتما اختياركما، لا الأهل ولا الأصحاب والأصدقاء ولا كُلّ المجتمع
بكُلِّ طرق الاختيار الفاشلة، والتي لم تعُد تصلح أن تكون مُعمّرة، فلا تضيفوا
للمجتمع أعباءً جديدة، ولا تُحمِّلوا المحاكم أكثر مِمَّا أصبحت تطيق وتحتمل، نعم
نصيب هو وقدَر، إنَّما من بعد اختياركما أنتما، وما كنتما قد خططتما وقررتما، لا
تجعلا البيئة تختار لكما على طريقة تفكيرها لأنَّكما ما زلتما صغيرين وهُم يعرفون
أين المصلحة، إنَّما يعرفون مصلحة الأحوال الشخصية والمستشفى القريب من العباسية،
وقد يختارون الفشل والتعاسة أبدًا، وقد تتأبدان فيه وهو لم يكُن يومًا من اختياركم،
وتبدأ رحلة شراكة العمر بدوام شقاء وبؤس العمر دون راحة أو هوادة، اختلاف طريقة
الاختيار واختلاف النظرة والهدف، فلا أنتَ بحاجة إلى عبدة جارية وليس الطريق اليها
هو الزواج، ولا أنتِ بحاجة إلى عائل ينتشلكِ من بيت العبودية وينفق عليكِ بسخاء
مِمَّا يبدو من نوع وموديل العربية، فلا أنتِ سلعة رخيصة لمَن دفع أكثر واشترى،
ولا هو الأوحد شهبندر التجار وأشطر الشطار، ولا هذه ولا تلك أسباب كافية أو ناجحة
للاختيار والقرار والارتباط،ولا تسليم كُلِّ ذلك للأقدار! كما إن ليس هدف الزواج
الوحيد هو إنجاب الذرِّية والحفاظ على النوع ولا الرغبة والمتعة يمكنها أن تكون
وحدها سببًا ولا هدفًا، ذلك سبيل حياة وسعادة الشركاء ودعامة بناء حضارة المجتمع،
فلا تضيفون إلينا ركامًا من التعساء الفاشلين المحبطين، وتزيدونا من كوارث وجرائم
المجتمع، إنَّ خاتم الخطبة موعد جميل جديد مع الحرية والانطلاق وبناء وتحقيق
الأحلام والسعادة، وليس قيد تنجرُّ به مُقيَّدًا بكُلِّ أنواع القيود والأقساط
والديون لتسكن زنزانة الشقاء والتعاسة مبكرًا ومؤبدًا، لقد أصبحت تبدو مواسم ومراسم الزواج في بلادنا
كما لو أنَّها من بقايا ولوازم وطقوس عبادة الأوثان في مجتمعاتنا، وأوَّل القرابين
التي يجب أن تُقدِّمها هي الشقة التمليك لزوم أمان بنتنا، ثمَّ إنَّ قيمة الشَّبْكة
وهى هديتك لها، فانظر كيف تُقيِّمها وتُقدِّمها، لكن لا يجوز أن تقل عن قيمة شبكة
بنت عمّتها أو بنت خالتها أو أختها، وفي المستقبل سوف تبيعونها لصعوبات الحياة
أعانكما الله! وهُنَّ الآن بين مُطلّقة وناشذ وعانس، ثمَّ علينا أن نُقدِّم
القرابين ونذبح الذبائح ونُقيم الولائم ونُردِّد التعاويذ والتمائم، وندعو
المعازيم في عُرْس يليق بأوَّل فرحتنا! ثمَّ نزفُّهم زفًّا ونؤزُّهم أزًّا إلى حيث
مثواهم بجوار الإله النِّيش في منتصف الصالة الضيقة الصغيرة، والآلهة أعوانه من
الغُرَف الأربع! ويبدءا حياتهما الجديدة السعيدة برحلة البحث عن محاولات لسداد
الأقساط والديون والجمعيات المترتبة على حفل افتتاح العش الجديد للإله النِّيش
جالب الفقر والنحس والنكد والضيق في جنبات البيت والحياة، والطريقة التي اختارها
لنا المجتمع بتقاليده الراسخة العتيدة والتي لم تكُن في شيء منها مفيدة، علاوة على
الالتزامات الناشئة الجديدة! وهكذا نفقد حريتنا وسعادتنا، بينما كُنَّا نريد أن نؤسس
حياة بسيطة وسعيدة نُفكِّر فيها بحرية عقولنا وطريقة لنا جديدة.
أنتما
أيُّها الشريكان بعد التأكد من صدق اختياركما وحبكما ماذا تختاران، سوار المجتمع
وطقوسه وقيوده؟ أم الحب والحرية والسعادة والانطلاق لبناء أحلامنا وحياتنا وعيشنا
ببساطة وسعادة؟، فلا تتركيه وحيدًا في معركته مع كُلِّ سوءات الواقع وتقاليده ولا
تتركها وحدها تواجه السلطات العليا منفردة، وتشاركا الاختيار والقرار والمصير إن كنتما
تُقرَّان بكامل الشراكة، ولديكما الإرادة أن تخوضا التجربة معًا وتثبتا لهُما ولكُلِّ
البيئة والمجتمع أنَّكما قادران، ولسوف تصنعان معًا السعادة، ولسوف تواجهان معًا وتبنيان
معًا البيت الجديد في المجتمع الجديد بوعي واستقلال وحرية وطريقة تفكير سوية تنبع
من ذاتنا، نواجه مشكلاتنا، نبتكر الوسائل، ونبدع الحلول ونمضي في طريقنا بحرية نُفكِّر
ونختار على غير ذات الطريقة، وحين يكون لنا أبناء فسوف ينشأون بحرية لا تقليد ولا
تلقين ولا تكرار، سوف نساعدهم يكتشفون أنفسهم ومكامن قدراتهم وطاقاتهم وقوتهم، سوف
نُعلّمهم يُفكّرون ويبحثون ويتحركون، لقد مات مجتمعهم القديم من التخلُّف والجمود
والتكرار والسكون.
الحياة
لا تخلو من كُلّ ألوان وصنوف المشكلات، وكثير من مشكلات الماضي سيحاول دائمًا أن يمتد
فينا ويصل إلينا ويعيقنا، لكنَّنا أصبحنا نعرف كيف نواجه كُلّ ذلك ونحِلُّه ونوقفه،
ونواجه تحديات أكبر في اتجاهنا للمستقبل ونتغلب عليها جميعًا معًا في حب وسعادة،
كُلُّ اختيارات الحياة نختار أيسرها وأحسنها، وسوف نسعى في كُلِّ تفاصيلها
ولحظاتها أن نخلق في كُلِّ جنباتها السعادة لأنفسنا وكُلِّ العالم وكُلِّ ما في الحياة،
سوف نزرع الفُل والياسمين والريحان في حياتنا وكُلِّ طرقاتنا، ونستنشق رائحة
تفاصيل حياتنا جميلة، هكذا نريدها ونحن نستطيع، سنُراكِمُ من نجاحاتنا خبرات نجاح
جديدة وحياة جديدة ونوقفها حائلًا وسدًّا منيعًا ضد كُلّ التجارب الفاشلة وخبرات
الفشل المتراكمة في عالمنا القديم الذي قاطعنا، ولن نعود إلَّا منتصرين، ندعو
ونعرض نموذج حياة جديدة سعيدة ناجحة بسيطة.
نقرأ
ونكتب ونُفكِّر ونبحر في عالم من الكتب والقراة والثقافة والعلوم والفنون والشعر
والآداب والمسرح والسينما، ونبدع وننتج ونُغنِّي وننشد ونرقى، ونجري ونلعب ونمرح
ونسافر، نجوب أرجاء بلادنا ونعود كُلَّ يوم نحبها أكثر وأكثر، ونحب كُلَّ ناسها
وأهالينا الطيِّبين وأيادينا ممدودة لهُم أجمعين، نتعلم معًا ونعلو ونتقدم ونتسلح
لمستقبل يجمعنا في كُلِّ رُقِي، ونتقدم ونريد ونزيد ونستزيد ونبتكر ونخلق ونبدع
نموذج حضارتنا الأرقى لكُلِّ العالم وكُلِّ الإنسانية وكُلِّ ما على الأرض: إنسان
وحيوان بَشر وطير ونبات وزهر وحجر وصخر وبناء وإعمار وحرية وعدل، وفي كُلِّ خطوة
خير، وفي كُلِّ يوم فرح، وفي كُلّ ليل سعادة، ومع كُلّ فجر تشرق حضارتنا على
العالم نحقق غايتنا في الوجود، ونؤدِّي رسالتنا في الحياة، ونلقى ربَّنا هكذا كما
أراد لنا، وننعم بجنته ولقاه ورضاه خالدين، اللهم تقبَّل مِنَّا وتقبَّلنا.
شباب
نحن الآن وسنعيش شيبنا في حياة دائمًا شابة، في أمَّة فتيَّة قوية، غنية حضارتها دائمًا
إنسانية راقية مزدهرة شابة.
أنت الآن تريد
أن تُغنِّي، يمكنك أن تُغنِّي، هل تحب الغناء، تحب أن تُغنِّي أو تستمع، ماذا تحب
أن تسمع، ما رأيك في إبداع جديد، شاب هو أو شابة في مثل عمرك أو أصغر، وكلاهما
ينتقى الكلمات، شاب آخر أو شابة ما أروع ما تكتب، ذلك من إبداعها، ما أروع كتابتها
حين تقرأ أو تسمع، وهذا بارع في العزف والألحان، ألا تريد أن تسمع، لقد شكلوا معًا
فريقًا ما أروع، إنَّما يُعبِّرون عن ذواتهم، لا يحترفون بطريقة بيئتهم التي قاطعوها،
وإن أرادوا لاستطاعوا بما يملكون من موهبة يحبونها، ولديهم رغبة في استكمالها
بأفضل الأداء والتعليم الذي يسعون إليه في كُلّ مكان سعيًا، لم يقعدهم هذا التلوث
وهذا الضجيج، ما يريدونه سوف يكون، نعم تعوزهم الإمكانيات، إن أردنا يمكننا أن نتكاتف
ونوفر بدائل ونتصرف، إنَّما سوف نُعبِّر عن أنفسنا، لن نحبط ولن نيأس، سنصدح ونشدو
كما البلابل والعصافير حُرَّة طليقة، هناك مجتمع جديد قادم نحن جزء منه نسعى إليه هو
الذي سوف يُقيِّمنا ويُقوِّمنا، وكُلّ مَن هُم مثلنا أو أحسن مِنَّا، سيستمر
الأفضل والأرقى وسنستمر، نتعلم ونتطور ونُقدِّم أنفسنا، ومَن يريد أن يتعلم أو
يشاركنا، سنجمع إمكانياتنا ونتقدم ونستمر، وهذه ورش وتدريب بأصول وفنون مهما كانت إمكاناتنا
سوف تكبر، سوف نُعظّمها شيئًا فشيئًا وخطوة بعد خطوة، وإنَّما لم نيأس ولن نحبط
ولن ننهزم، لا نريد منهم شيئًا ، نريد أن نُقدِّم البديل ما استطعنا، كلمة بسيطة
كبساطتنا، عميقة بعمق ما فينا، ولحن جميل هو الأروع، وصوت بديع وسيكون أبدع، وكُلُّنا
في مجاله يبدع، وها نحن نؤسس مدرسة صغيرة ورشة كبيرة للصغار، يريدون أن يتعلموا
كيف يكتبون ويعزفون ويُغنُّون، وها هُم يتعلمون في فرح وسعادة ورُقِيّ ويقاطعون
التلوث والنشاذ والضجيج وما كانوا عليه يعتادون، عمَّا قريب سيكون فريقًا من كورال
الأطفال في حيِّنا مَن كان يمكن أن يتصور، كُنَّا نظنه مستحيلًا لم نكُن هكذا نُفكِّر،
كُنَّا مستسلمين لدورة الحياة العابسة العبثية الرتيبة الكئيبة، وكُنَّا نُفكِّر
كما يُفكّر الناس من حولنا أن لا شيء يُهِمّ ولا شيء يمكن أن يتغير، وأنَّ هذه
أقدارنا وحياتنا ومجتمعاتنا، لكنَّنا نمضي وسوف نُغيِّرها ونخلق لكُلِّ عجز بديل،
ونتحرك ونُحرِّك مجتمعنا وبيئتنا إلى الأمام وإلى الأعلى، لم نعُد ندور حتى الإعياء
ونسقط، نعم نتعب لكنَّنا من روعة الحصاد نشعر لذة التعب، أصبح لنا صوت ونشيد
وأغنية، وأصبحنا نختار وننتقى ما نسمح له أن يصل إلى مسامعنا، لم نعُد مضطرين ولم
تعُد خياراتنا محدودة بحدود بيئتنا القديمة، نحن في طريقنا نمضي نبدع كُلّ ما
يمكننا في بيئتنا الجديدة، حياتنا التي نُفكِّر ونريد ونختار ونبدع.
أصبحنا نعرف
كيف يعني، وكيف يمكن أن نُفكِّر بحرية ونبدع، ونبحث عمَّا نريد في عقولنا بعمق
ومشاعرنا بصدق وطريقة تفكيرنا ونتاج أفكارنا، أصبحنا نعرف ما نريد، ونعرف كيف يمكن
أن نحقق ولم نعُد ننتظر ولم يفدنا الانتظار شيئًا أو ينفعنا.
وفي كُلّ منطقة
أصبح هناك مسرح صغير، وفي بعض الإحياء كبير، وكذلك في بعض القرى، في كُلِّ مكان
هناك شباب تملؤه الحياة ويريد لو يحيا، كانت البداية صغيرة فقيرة وإنَّما كانت
غنية جدًّا بنا، كان الشارع مسرحنا وأجناب الأرصفة مقاعدنا، كانت ورشة أبدعنا النص
معًا، وأخرى تعلمنا الإخراج المسرحي كيف يكون، وثالثة علَّمنا إيَّاها مهندس شاب
في الديكور، ورابعة وخامسة وكثير في فنون التمثيل، وكان أداؤنا صادقًا مبهرًا، وكأنَّ
حياتنا مسرح كبير، هذا ما نحب ونبرع، نجحت عروضنا، الناس أعجبتها التجربة وأصبحت
مثلنا تُفكّر، أصبحوا يتفاعلون ويُفكّرون ومنهم على نفس الطريقة يبدعون ويُقدِّمون
أنفسهم ويعبرون ويطرحون قضاياهم ومشكلاتهم وفلسفاتهم وأفكارهم على مسرح آخر مجاور
في الشارع المقابل في الحي الآخر، نجحت التجربة، امتلأ الشارع وازدحمت الأرصفة، وأصبحت
هناك قاعات أخرى على أسطح المنازل بعد تنظيفها وترتيبها، وقاعات أخرى في صحون
وفضاءات وحدائق الكنائس والمساجد بعد أوقات الصلاة، وتراصت الأفكار والعقول على
الحياة، مقبلة تُفكِّر وتقيم وتناقش وتشارك، والأمر لا يخلو بطبيعة الحال من
الاستهزاء والسخرية وكثير من المشكلات، هذا أمر نتفهَّمه، نعرف أسبابه وكوامنه،
سيأخذ الأمر وقته إلى أن يستمر وينتصر، ويكون فيه البديل والفكر والتعبير، وهذا
طريقنا للتغيير، وهو بعد وقت قد حصل، انتقلت التجربة وسافرت وأسمعت، وأصبح بعد ذلك
هنالك مسرح لنا صغير كُنَّا نلتقى فيه ونبدع أداءاتنا كُلُّنا معًا، وتناقلت التجربة،
فأصبحنا نتبادل العروض في مختلف الأمكنة، وكبر المسرح معنا وبنا، وسيلة للحوار
والأفكار والأسئلة، وأقمنا مهرجانًا ومسابقات معًا في مختلف الأروقة، وكُلُّنا
فائزون بحياة جديدة لم نكُن نظنها قبل ذلك ممكنة، والتقط مِنَّا التجربة شباب
آخرون مبدعون في مجالاتهم المتعددة، هناك مَن صوَّروها وعلى كُلِّ الصفحات في الفضاءات
قد رفعوها ونشروها، وتوسَّعت التجربة وتزايد مرتادوها وجمهورها، وامتد الحوار
وتعاظمت الأفكار والأسئلة، هذه ملامح عالمنا الجديد وتباشيره لم يَعُد ممكنًا إن نترك
شيئًا راكدًا.
وكذلك هو الحال
في الشعر والقصة والرواية وكُلِّ الفنون والآداب والثقافة والصحافة والحصافة وكُلِّ
إبداعاتنا، وهذا يُبشِّر بنهضة ثقافية ناهضة مقبلة، منذ أن قاطعنا بضاعتهم البائرة
وقوانين منافساتهم ونظمهم الجائرة وعروضهم المتكررة وطريقة تفكيرهم في نفس الدائرة،
أبصرنا عالم آخر جديد وقدمنا إنتاجًا جديدًا إنَّما يليق بنا، لم نعُد نُكرِّر،
مشكلات مستقبلنا ووجودنا تلح علينا في كثير من الأسئلة، أصبحنا نواجهها ونتصدى لها،
لم نعُد نهرب منها، أصبحنا نُعمل خيالنا وعقولنا وأفكارنا في إجابتها ونبدع في حلها،
ولم نعُد نطالب أحدًا أو ننشغل أو ننتظر أو نسخر أو نعترض، أصبحنا نعرف جيِّدًا
ليس في مقدورهم وليست اهتماماتهم ولا نُمثِّل هدفًا لهُم، بقاؤنا على حالنا قبل
ذلك مثلهم هو أفضل ما يمكن أن نُقدِّمه لهُم في تصورهم ومعتقداتهم من أجل
استمرارهم، ممسكين بالساقية التي ندور فيها، مستأثرين بكُلِّ ما تخرجه من ماء آسن
عفن، لكنَّنا إذ أخرجنا عقولنا من أسْرهم نُعمل كُلَّ إرادتنا بكُلِّ ما أمكننا
واستطعنا بأقصى ما يمكننا أن تُقدِّمه لنا إمكانياتنا الآن، ولسوف تكبر معنا
وتتعاظم وتنمو وتزدهر ونصنع حياتنا الجديدة في عالمنا الجديد ذلك الذي قرَّرنا أنَّنا
نريد.
يمكن للرسم والفنون الجميلة والنحت والتماثيل
أن تملأ أحياءنا وشوارعنا وقُرانا، نرسم على الحوائط لوحاتنا نبثُّ فيها روح
الحياة والأمل، وننثر الألوان المبهجة والزخارف المعطرة بعرق الشباب وجهدهم في بناء
حياة سعيدة، نُعلّق ابتساماتنا مشرقة بالأمل جداريات عملاقة تملأ ذلك الميدان الذي
تخيَّرنا هذه الزاوية المهملة منه فأحييناها، سوف نقيم هناك في العام القادم
ملتقًى ثقافيًّا شبابيًّا جامعًا، سنقدِّم كُلَّ إبداعاتنا في كُلِّ مجالات وألوان
الثقافة والفنون ونتسابق، نلتقي فنشارك ونتفاعل ونتعلم ونتطور، نتحرَّك نُحرِّك
البيئة الساكنة الجامدة من حولنا ونتقدم ونحيا، ما أروع شكل وقيمة ومعنى الميدان
الآن، أإَّهُ ينبض بالحياة، في كُلِّ زاوية منه أمل جديد ووعد أكيد، وفي كُلِّ خطوة
ونظرة وحركة إبداع جديد، وكأنَّ كُلَّ ذلك قد كان كامنًا فينا مُكبَّلًا ينتظر
لحظة الانطلاق والحرية، وإطلاق طاقات العقل إذ يتحرَّر.
عالمنا
الصغير هذا ينمو ويكبر وكُلٌّ بإبداعه يُعبِّرعن نفسه ويتفاعل ويتطور، ليس الأمر
كُلّه بسيط، فطالما تظهر التعقيدات والمشكلات من كُلِّ نوع، لكنَّنا أصبحنا نعرف
كيف نواجه، وبعد كُلِّ مواجهة وحين يأتينا اليقين أنَّنا هكذا في طريقنا للمستقبل
الذي نريد والحياة التي نتمنى، إنَّنا نريد الحياة وإنَّنا كيف نريدها تأتينا،
وحيث لا نريد لأحد أو لشيء أن يعوق تقدُّمنا ويعطل إبداعاتنا ويشغلنا، فنحن أصبحنا
بحاجة إلى منظومة تنظم أعمالنا وملتقياتنا وتبادُلنا وتفاعُلنا وتدبّر انتقالاتنا
وسفرنا ولقاءاتنا وشباب المبدعين في كافة أنحاء الوطن ما استطعنا، نريد لهذا
الفضاء الكبير الممتد الذي كان بلا هدف ولا حدود ولا أرض له أن ننزله واقعًا كبيرًا
نمسكه ونعيشه ونُنظّمه ويجمعنا، نرسم معًا الحدود تُمكِّننا أن نتجاوز كُلَّ الحدود،
ويجمعنا بيت الشعر الواحد من الأقصى إلى القدس إلى الأزهر إلى الحرم، ونظم القصيد
في كُلِّ أرجاء الوطن، ومعرض اللوحات والرسوم يمتد من الخرطوم إلى عدن، ومن بغداد
ينطلق معرض الكتاب والكتب، ومن بيروت تنطلق الألحان وتقرع فيروز أجراس العودة
فلتقرع، ويجمعنا نشيد كُلِّ أرجاء الوطن في قسم شجيٍّ واحد آتٍ آتٍ آت. فنحن بحاجة
إذن وبالضرورة أن نبدع منظومة كبيرة متناغمة، تربط بين أرضنا في الواقع وكُلِّ
فضاءاتنا المفتوحة الممكنة.
الشباب في عالم
الرياضة يُفكّرون في مارثون كبير بديع يُدعَى إليه كُلُّ شبابنا العربي من كُلِّ العواصم
وفي وقت واحد وفي اتجاه كُلِّ الحدود.
والمبدعون في
عالم الزراعة تكفلوا أن يُزيِّنوه مُعطرًا بكُلِّ ما تنتج أرضنا الخصيبة من كُلِّ أنواع
الزهور وأحلى الورد.
وتخيلوا أن نصطحب
الشتلات، ونزرع الأشجار المثمرة فوق كُلّ الحدود، نرويها من دمائنا، ونتبادل
ذكريات وتضحيات الشهداء والجدود.
والله
يمكننا من جديد أن نعيد زراعة الوطن فينا، ونعيد رسمه في الوجود. هكذا كان الشباب
يُنشدون في الطريق وكأنَّهم إنَّما يُردِّدون القسَم.
لو أنَّ المبدعين
الوطنيين المخلصين في مجال المال والأعمال تجمَّعوا أو بعضهم، فأقاموا مصانع
للشباب أو مصنعًا، وأنتجوا مثلًا أزياء للشباب أو ملبسًا، وميَّزوه وخصَّصوه لهُم،
وتعامل معه الشباب كمنتج خاص بهم ومميَّز لهُم ودعموه وحده صناعة وترويجًا وتوزيعًا
وارتداءً واستعمالًا بكُلِّ ألوانه أو بلون واحد خاص بهم، واتخذوه بديلًا عن كُلِّ
المنتجات والماركات الأخرى وكأنَّهُ أصبح شعارًا لهُم.
تلك عملية
صناعية إنتاجية واحدة ممكنة، انظر إلى عظيم آثارها على كُلِّ المستويات المصاحبة
والسهلة جدًّا والممكنة.
هذه صناعة
وطنية جديدة وبامتياز، تقوم من أساسها رابحة في كُلِّ شيء، فلسفتها وقيمها وغايتها
وهدفها والمشاركين فيها والقائمين عليها وكُلِّ الأيدي العاملة والمُروِّجين
والوكلاء والمُوزِّعين والبائعين والمشترين والمستهلكين والرابحين جميعهم هُم من
شباب وأبناء هذا الوطن.
أنظر وتأمَّل
وتخيَّل، وإنَّك من بعد ذلك سوف تبدع، وسوف تنتج كُلَّ ما هو أروع، تحرث في أرض
جديدة وتزرع أرضًا خصبة بكرًا واعدة جدًّا وجديدة، وتحصد فوق أرباحك ومن قبلها
كُلَّ معاني الانتماء والولاء العظيمة، هذا سوق كامل واعد كبير قوامه في أقل تقدير
يتجاوز مائتي مليون شاب وفتاه، ليس هذا فقط خلق اقتصاد جديد، هذا وطن جديد وعالم
جديد ووجود، هذا هو حين يعيش فيك الوطن ويحيا بك ومنك وإليك وفيك، فهذا وطنك بينما
أنت تُحرِّره بعدما حرَّرت نفسك وعقلك وتصنعه وتبدعه في خلق جديد. فلو أنَّ هذه
المصانع تنمو وتكبر وتتسع وتزدهر، بينما أنت تتوسع في مجالات وصناعات أخرى جديدة،
كُلّها تُمثّل احتياجاتنا ونحن ندعمها دون غيرها، ونجعلها عالمنا وما يُميّزنا
ونتفاخر بها ونفتخر، ونربح جميعًا فنكبر ونُطوِّر ونزيد، وقد نعاني وقد نتعب وقد
نواجه، فالأمر لا يخلو لكنَّهُ يستحق، ليس سهلًا أن تُحقِّق هكذا أملًا لكنَّهُ يمتلك
كُلَّ مقومات النجاح والاستمرار.
تلك فلسفة
جديدة، طريقة في التفكير والحياة، وتشمل شيئًا فشيئًا كُلَّ تفاصيل الحياة، كيف
سوف تكون شوارعنا حين نزرع أمام بيت كُلِّ واحد مِنَّا شجرة صغيرة مثمرة، ما الذي يمنع،
هل نكون قد خالفنا القانون؟ أمْ إنَّنا نزرع في نفوسنا الحياة والأمل حين نرعاها
ونراها تكبر وتورق وتزهر وتثمر كما سوف تكون أيامنا وكل تفاصيل حياتنا معها ونحن
نرعاها ونرعى أفكارنا تنمو وتكبر معها؟، ونبدع صورًا وأشكالًا حتى في صناديق
القمامة المتراصة على جنبات الطرقات في أحيائنا، ونُعلّم الأطفال ونُعوِّدهم على حياتهم
الجديدة التي سوف يحبونها ويكبرون عليها ويكون سلوكهم، ونُزيِّن شوارعنا، ونرسم
اللوحات فوق حوائط بيوتنا القديمة المتهالكة بألوان بديعة زاهية كلون حياتنا
الجديدة وعالمنا الذي نريد، أمَّا الخرابات والزوايا المهجورة والمساحات الخالية
المهملة، يمكننا أن نُعيد خلقها كحدائق صغيرة، وما منها يسمح أو يصلح ستكون ملاعب
صغيرة لمختلف اللعبات التي نحبها ونحب أن نمارسها بأنفسنا، خير من أن نشاهدها فقط
ونختلف ونتعصب ونهدر وقتنا على أولئك الذين يتقاضون الملايين جراء مشاهداتنا
ومشاداتنا دون أن يعود علينا شيء منهم، إنَّما نحن هو الكيان الأولى بالاعتبار
والاهتمام والممارسة ويمكننا ونستطيع، نُمهِّد الملاعب أيَّما كانت وما استطعنا لمختلف
اللعبات ونتعلمها ونجيدها ونُعلّم الأطفال في حيِّنا ومناطقنا وأماكن سكننا، ونُدرِّبهم
ونُقيم الدورات والبطولات والمسابقات، ونمارس مختلف الرياضات، وقد تبرز المواهب
وتكبر وقد نقيمها ساحات وأندية في المستقبل القريب حينما تتعاظم إمكانياتنا، طالما
يكبر عالمنا وينجح ويستمر، ويمكننا أن ننتظم وننظم مارثونًا أسبوعيًّا طويلًا يجمع
شبابنا وشباب الأحياء من حولنا والفتيان وكُلَّ مَن يريد نذهب نتنفس ونستنشق عبير
شوارعنا وأحيائنا، ونستمتع بجمال بلادنا وروعتها، ونحتضن شوارعها وتشعر بنا إذ نُعمِّرها
ونبنيها، ونُقيم حياتنا العامرة الجديدة فيها. ما الذي يمكن أن يمنع شيئًا من هذا،
هل خالفنا أيًّا من النظم والقوانين؟ أمْ إنَّ علينا دفع رسوم السير في طرقات
الشوارع والميادين والأمكنة؟، وهل سيفرضون علينا ضريبة جديدة كُلّ بحسب وزنه أو
بحسب كميات الهواء التي يمكن أن يستنشقها ويتنفسها أو عدد الخطوات التي سوف يخطوها
اما مشيا أو جريا؟، لم نخالف شيئًا ولم نمس التقاليد والأعراف ولم نقربها ولم
نخالف القانون أبدًا، إنَّما نخلق حياتنا الجديدة ونشرع لها طريقتها وقوانينها،
وحياتنا هذه في رؤوسنا منفتحة ومحصنة داخل عقولنا ننفذها بإرادتنا وإيماننا داخل
صدورنا وقلوبنا، أيّ إنَّهُ لا يمكن لأحد أبدًا أن يمسك بها أو يعتقلها ولا لأيِّ قانون
أن يجرمها أو يمنعها، ولا نحن سوف نخالفها أو نتخلى عنها مهما كلفنا ذلك من ثمن
إلَّا إذا صدرت من بعد ذلك قوانين تُجرِّم تغيير طريقة التفكير والشروع في الإفلات
من التخلُّف والسطحية والجمود.
وسوف يبدع
الشباب من الأطباء ويبرعون فيما يمكنهم تقديمه من هذا القطاع المظلوم والذي يظلم
كُلّ الناس في نفس الوقت، وكيف يمكن أن نتعامل وكيف يمكن أن تتحسن أحوال الصحة عند
الناس في بلادنا وعالمنا الجديد، لندع كُلّ ما هو قائم على ما هو عليه قائم، لم
يَعُد فيه أمل، لا شأن لنا به، ولن نعود ندور في نفس الساقية من جديد، فماذا يمكن
أن يقدم الأطباء في هذه المؤسسات الصحية الموازية في حياتنا الجديدة، أمامنا
صعوبات كثيرة لن نتخطاها إلَّا بالإبداع وبإعمال عقولنا وطريقة التفكير المختلفة
التي أصبحنا نُفكِّر بها على غير الطريقة الموروثة المتكررة الساكنة الجامدة، ولا تغيير
فيها، ولا نتائج يمكن أن تُرْجَى منها.
وكذا
الخريجين والمدرسين والمفكرين والمهتمين ولا سيما المبدعين في كُلّ مجالات التعليم،
هذا حجر أساس كبير وزاوية كبرى والركن الركين في بناء عالمنا الجديد وحياتنا
الموازية، بطبيعة الحال لم نقرب ما هو قائم، لا أمل فيه مطلقًا، وأيًّا كانت
الأسباب والدوافع والبواعث، لم يَعُد يعنينا شيء من هذا، ولم نعد نوليه الاهتمام
ولم نناقشه ونُضيِّع الوقت والجهد والطاقة فيه كما لم نغادره، سنتحصل منه كما هو
على الورقة التي يمنحونها في آخره، وإنَّما ندرك جيِّدًا أنَّنا لم نتعلم شيئًا
وفي نفس الوقت نريد أن نتعلم ونتحصل على أفضل وأعلى مستويات التعليم ودقائقه
وتقنياته لنا ولكل الأطفال والفتيان والناشئة في بلادنا، وهذا هو التحدي الكبير
وواحد من أكبر وأعظم التحديات التي تواجهنا ويلزمه إبداع جماعي متضافر متكامل من
الجميع، كيف نوزن ونوازن هذه المعادلة، لا بُدَّ من حاصل جمع كُلِّ الاجتهادات والإبداعات
المرجوة الممكنة، مؤتمر كبير دائم الانعقاد يدرس الأهداف والغايات والقدرات والإمكانيات
وكيف نعظمها، والفرص والتحديات وعناصر القوة ونقاط الضعف ويضع الخطط والبرامج
ويبدع الوسائل والأساليب ويسد الحاجات والثغرات ويقيم ويتابع ويطور لايتوقف أبدًا،
لأنَّنا تحديدًا وفي هذا الجانب إذ نبدع ونتمكن يمكننا أن نقفز عاليًا فوق الزمن
ونتجاوز كثيرًا من المسافات، لم نُعِد اختراع العجلة من جديد، في هذا العالم أصبح
كُلُّ ما يمكن أن تحتاج إليه موجودًا، إنَّما كيف تصل إليه كيف تستكشفه أو تبتكره
وتبدعه، ويمكنك أن تتناقله وتنقله وفق حاجاتك واحتياجاتك وما يصلح وينفع لقيمك
وأخلاقك وبيئتك، لم يكن العلم يومًا ولن يكون حكرًا على أحد، كُلُّ ما في العالم
من تقدُّم وحضارة تستطيع أن تستخدمه وعلى واقعك وبيئتك، تبيئه من جديد وتبدعه، لا
يمكنك البدء من جديد، تبدأ دائمًا من حيث ما انتهوا إليه وتبيئه وتزيده وتُطوِّره،
فضاء الكون الجديد ملك لكُلِّ هذا الكون، وكُلُّه بين أيادينا الآن في لحظة واحدة،
طالما إنَّنا أصبحنا هكذا نُفكِّر، فيمكن لكُلِّ ما نريده أن يكون ويحصل.
ليس هناك
فاصل زمني، هذا فاصل عقلي وإرادي، إنَّما تخلقه أنت من داخلك، بعد أن تقرر وتمارس
وتنجح في مقاطعة دورة الحياة العقيمة التي كنت عليها، تدور في تلك الدائرة المفرغة
الفارغة، فتقاطع ما يسمعون ويتكلمون ويشاهدون ويتجادلون ويتبادلون ويهتمون
ويتابعون ويفكرون ويكررون، ويعيدون نفس طريقة حياتهم وطريقة تفكيرهم، وإنتاج نفس
الأفكار في كُلِّ مرة، والوصول دائمًا لنفس النتائج مع تدنِّي المستوى في التفكير
والحديث والنتائج والمنتج الهابط الساقط في كُلِّ شيء وكُلِّ مجال، وفي ركود وجمود
وسكون ليست هناك أيَّة حركة أو تقدم للأمام أو للأعلى، حيث النتيجة الحتمية
الوحيدة الممكنة يتساقطون صرعى الجهل والتخلُّف والسلفية أو التغرُّب، مع استمرار
القهر والقمع والاستبداد وظلف العيش والحاجة والفاقة والمعاناة المتفاقمة اللا
نهائية دون حد أوسقف، وصولًا إلى الانهيار المؤكد والزوال من بعد هيمنة كاملة
شاملة وتبعية مُذِلّة مُهينة.
إنَّما الأمر
الوحيد غير الممكن أو المتصور أو المقبول هو انتظار الموت في هذا الحال على هذا
الموات القهري العبثي المكرور طوال كُلِّ هذه القرون.
لكنك إذ قاطعت
كُلَّ هذا فإنك قطعت كُلَّ هذا عنك واستمراره فيك، ولقد تحررت فلم تعُد مقيدًا أو
مرتبطًا أو مُلزَمًا بما يفكرون ولا كيف يفكرون، مُكرَّرًا ولا كيف يعيشون كُلَّ حياتهم
وتفاصيل أيامهم وطقوسهم ومسالكهم وسلوكهم، ولقد نجوت من السهر عبثًا أمام قنواتهم
الفضائية وإنتاجهم الغث من مسلسلات وأفلام وبرامج وتفاهات ونشرات إخبارية يتصدرها فخامة
الرئيس وجلالة الملك وسمو الأمير وكأنَّ أحدًا يعبأ بهم أو يهتم لهُم.
وأنت بعد ذلك
بما تُفكِّر وتبدع تُقدِّم بديلًا عن كُلِّ ذلك أروع، أنت بالأساس كنت تهرب من
كُلِّ ذلك وغالبًا ما تعيش في العالم الافتراضي المجازي، لكنَّهُ يحمل كثيرًا من
هذا العالم إن لم يكُن كُلّه اللهم إلَّا السخرية منه والاعتراض، وإنَّما كان يجُرُّ
لنفس طريقة تفكير ذات البيئة ونفس الحوار الدائري بلا انتقال أو صعود، لكنك بعد
المقاطعة وتغيير طريقة التفكير أصبحت يمكنك أن تُحوِّل هذا العالم المجازي الذي كان
إلى عالم حقيقي موازي تمامًا للواقع الذي نعيشه وتستبدله بذلك النموذج الذي أصبحنا
نحلم به ونعمل له ونريده، الآن يمكنك إنتاج البدائل كاملة، أنت الذي تملك الإمكانية
والمهارة وقدرة التعامل ومزج ودمج عالمنا الموازي الجديد والذي نسعى إليه ونريده
بهذا العالم الافتراضي بحيث يُبشّر به ويعلن عنه ويعلم ويُقدّم منتجه ويُروِّجه
ويدعو إليه ويُنظّمه ويتبادله ويعرض منجزات النموذج الذي أصبحنا عليه وكُلَّ يوم
نصنعه ونخلقه فينا ويقارنه ويوصل التجارب والنماذج ببعضها ويناقشها ويُقيِّمها
ويتابعها فيُطوِّرها، لقد أصبحت ويمكنك بهذا الهاتف الصغير في يدك وبإبداعاتك
المتعددة والمتنوعة وكثير من الشباب مؤسسة إعلامية كبرى وحرة ومتنقلة مستقلة
ودينامكية متحركة تتنقل بين أيادي وعقول وأفكار وقلوب شباب كُلِّ الوطن بكُلِّ يُسْر
وسعادة وسهولة، هذا الهاتف الصغير يمكنك أن يكون هو جهاز الإعلام البديل، وهو أحسن
تعبير عن عالمنا الجديد البديل الذي نمضي هكذا في كُلِّ المجالات والحقول نمضي نزرعه
ونصنعه ونخلقه، إنَّ هذا الفضاء الممتد امتداد وطننا والعالم يمكننا أن نحلق فيه
قدر أحلامنا وآمالنا وجمالها واتساعها وقدر استيعابنا وطاقاتنا وقدراتنا ووعينا
وأهدافنا، يمكنه أن يكون خير تعبير وأكمل توصيل لأفكارنا وطريقنا وخططنا وخطواتنا
في اتجاه صناعة مستقبلنا واستخلاص واستخلاق حضارتنا من جديد.
وهناك الكثير
وأكثر من ذلك بكثير لتشمل كُلَّ الزوايا والأركان والجنبات وكُلَّ ما يمكنك أن تتصور
من أمور وتفاصيل، طالما أصبحت هكذا يمكنك أن تُفكِّر سوف تظل في كُلِّ مكان ومجال
وتفصيل تبدع، يمكن أن يكون لنا الآن برلمان حقيقي كبير، يُعبِّر عنَّا أصدق وأكمل
تعبير في كُلِّ قضايانا الكبرى، واهتماماتنا وغاياتنا في الحياة وأهدافنا وتفاصيل
واقعنا والتصدِّي لكُلِّ مشكلاتنا، ورسم
وصياغة كُلِّ خططنا للمستقبل وكيفية مواجهة أعدائنا في كُلِّ مكان ومجال وفي أيِّ مكان
وعَبْر أيِّ حدود، وصياغة مشروعاتنا وتشريعاتنا للمستقبل الذي نتفق عليه ونريد.
في هذا
الفضاء الإلكتروني الواسع الكبير أصبحنا نعرف بعضنا ويمكن أن نُقدِّم ترشيحاتنا
ونُجري إنتخاباتنا ونعقد دوراتنا ونُجري حواراتنا ونتفق ونُعمِّم وننفذ ونعود نُقيِّم
ونتابع ونراجع وفي كُلِّ الأمور وعلى كُلِّ الساحات وفي كُلِّ المجالات نتحرك
ونتقدم وننطلق، ونفس الأمر في المحليات والمناطق الأكبر والأصغر بل والشوارع
والأزقة والحارات، بل هو أوقع وأنفع وأنجز إذ يمكننا التلاقى على الأرض تجمعنا،
وفي الفضاء يوسعنا، ما الذي يمكن أن يمنع ما هو أكثر من ذلك وأكمل وأبدع، لم نخالف
أيَّ قوانين أو نُظُم، سنعيش حياة أروع، وسنُغيِّر ونُطوِّر واقعنا ونحل مشكلاتنا
أسرع، ولن نطالب أحدًا شيئًا وإنَّما سنبدع ونحقق ونعمل، وسنجعل لكُلِّ شيء قيمة
وفائدة، ونجمع قدراتنا وإمكاناتنا واحدة ومتعددة وتكون لحياتنا وكُلِّ أوقاتنا
قيمة، وجميلة ونافعة كُلّ حواراتنا وأحاديثنا ونعرض منتجاتنا وأفكارنا ونتبادلها
ونُطوِّرها ونُعظّمها ونفيد بها ومنها نستفيد وأكثر، فما الذي يمكن أن يمنع، نحن
نخلق عالمنا الجديد الذي نريد ونبدع التماذج بين واقعنا الجديد الذي نحقق ونريد
وبين الفضاء الذي كان يشغل وقتنا سخرية واعتراضًا، وندخله جزءًا مفيدًا وركنًا
جديدًا في عالمنا الجديد، ليصبح واقعًا وانطلاقًا لمستقبل جديد، وإنَّما مواز لا
يقطع ولا يتقاطع ولا يلتقي مع الواقع الذي نرفض والذي لم يَعُد يمكننا الاستمرار
عليه ولا الاكتفاء بمجرد الاعتراض عليه والسخرية منه والاستهزاء به، فلم يَعُد شيء
من ذلك ينفع أو يشفع أو يفيد، كما لم نعُد نسمح له أن يدجننا ويفرض علينا دورته
ويعوقنا، خرجنا نهائيًّا من دائرته ولم نعُد مُقيَّدين في ساقيته ولم نعُد نُفكِّر
بطريقته واختلفت بيننا السبل والطرق والوسائل والأهداف ولم نعُد ننتظر أو نجبن أو
نخاف، هكذا أبدعنا طريقنا الجديد لم نخالف أحدًا أو شيئًا ولم نؤذ بهذه الطريقة
أحدًا ولم نعُد نزعجكم أو نقارنكم أو نناشدكم عدمًا بلا جدوى، ولا نهتم ولا نلتفت
ولا ننتظر ولا نريد منكم شيئًا، وإنَّما نمضي في حياة موازية على نفس الأرض وتحت
نفس السماء، نشق طريقنا في كُلِّ التفاصيل على غير ما رسمتم لنا وحددتم من تفصيل
أفشل حياتنا وأفسد عقولنا وما أبشع، هذا خيارنا كي ننجو وبعون الله ننتصر.
اُنظُرْ كيف
أصبحت أعلامنا ترفرف أينما نمضي، وفي كُلِّ طريق نمشي، وفيما أصبحنا نأكل أو نشرب
أو نلبس أو نُغنِّي أو نرسم أو نكتب أو نُعبِّر أو نُفكِّر أو ننتج أو نصنع أو
نعلم أو نتعلم، وفي كُلِّ شيء وفي أيِّ شيء، لقد أصبح كُلُّ شيء طريقة في التفكير،
أسلوبًا وسلوكًا في الحياة، فلسفة وسلوكًا وأخلاقًا، إذ نقطع ثلاث مراحل وخطوات
كبرى عملاقة معًا، فنحن نقاطع عالم التخلُّف مقاطعة كاملة شاملة، فنقطع ونمنع
تأثيره علينا وفينا نهائيًّا، وفي نفس الوقت إذ تحررنا وتحررت عقولنا وطريقة
تفكيرنا نستخلص ونستكشف ونبدع ونصيغ الرؤية التي نمضى بها ونعرف ونفسر ونقود، وفي نفس
الأثناء نصنع ونخلق ونبدع النموذج الناجح القائد في كُلِّ مجال، والقابل دائمًا للمحاكاة
واستمرار التطوُّر والإبداع، والإبداع هو المحور.
هكذا يكتمل محيط
الدائرة الجديدة.
(مقاطعة شاملة ناجحة، إبداع رؤية وبصيرة ثاقبة نافذة،
نموذج ناجح قائد على الأرض يعينه وينشره إبداع الفضاء الإلكتروني بإقتدار )
حيث يمكننا أن
نُمثّل دائمًا هكذا مركز الكون والوجود والعالم الذي نريد، هذا إذن عالم موازي لهذا
العالم الذي كُنَّا نعيش فيه لا يتقاطع معه ولا يلاقيه ولا يهرب منه ولا ينعزل،
إنَّما يُقدِّم نفسه بديلًا عنه وينتصر. .
هاكما
الصورتين، صورة واقعية مُستمِرّة أنت في قلبها تعايشها بكُلِّ تفاصيلها وتدور فيك
وتدور بك وتدور معها، وصورة أخرى عليك تخيلها والتفكير فيها وحولها وما يمكن أن تصل
إليه، ومن ثمَّ الاختيار واتخاذ القرار.
حقيقة الأمر أنَّ صورة الواقع الواقعية التي تقع
فيها قاعدًا أو منقلبًا أسهل كثيرًا، حيث لا تتطلب منك أيَّ جهد زائد أو إضافي، كُن
كما أنت عليه، كُلّ ما عليك عمله وهو عمل سلبي لا جهد فيه، هو ألَّا ترفع الغمامة
من فوق عينيك وأنت تظل تدور وألَّا تُفكِّر حفاظًا على ما تبقَّى فيك من طاقة،
ويمكنك دائمًا أن تتكلم كيفما شئت في إطار الحدود المتاحة والمسموحة، ثمَّ ليس
عليك سوى الانتظار إلى أن ينتهي أجلك ودورك ويستبدلونك بأيِّ.... آخر في ذات الطرف
من نفس الساقية القديمة.
أمَّا صورة
التخيل والتصور والتفكر والتدبر والتفكير في العقل ذاته قبل التفكير به وما يحوي
من مخلفات نتاج البيئة، فهي إذ تُقدِّم نتاجًا مختلفًا حتمًا إنَّما يلزمها كذلك إرادة
وقوة وصبر واحتمال لإنفاذ ما تصل إليه من رؤية لازمة مصاحبة للاستمرار والوصول وتقديم
النموذج، ولك أن تتخيل كم يتطلب الأمر من جهد واجتهاد ومعاناة ذاتية وعناد مجتمعي
قد لا تطيق عليه صبرًا، وقد يصبح الأمر أكثر إمكانية نسبيًّا بالمحاكاة، حيث يوجد
مَن هُم على هذه الصورة (نخبة جديدة أو طليعة واعية مبدعة قادرة) يحاولونها بوضوح
وظهور مؤثّر ملموس، فتجد أنَّها تحدث أثرها أسرع نسبيًّا وتجد من يلتف حول هذا النموذج
وتتسع دائرته، وتخلق تلك الدوائر الأكبر القابلة للحياة والاستمرار والقادرة على
الانتصار، أقرب ما يمكن أن تتصوره حول هذه الصورة في أدائها لهذه المهمة الحضارية
سواء من حيث صعوبتها وقسوتها ومعاناتها أو من حيث عظيم نتائجها في التطوُّر والتقدُّم
والحضارة، هي صورة الأنبياء في أدائهم لرسالتهم، وكيف عانوا فيها وأعانهم الله
عليها، وكيف وصلوا بها بعون الله.
هكذا هو الأمل، إبداع
المستقبل واستخلاق الحضارة وصناعة التغيير.
نعم يستغرق
الأمر مشقة وعناء وجهد واجتهاد واستيعاب ويلزمه زمن قد يطول، أوَ تدري كم ظلَّ
فرعون يمارس الطغيان ويعيث في الأرض فسادًا قبل أن يولد موسى، لقد وُلد موسى وتم
اختياره وإعداده ليواجهه موسى وينتصر عليه ويكون التغيير بعد كُلِّ هذا الزمن حيث
استخف قومه فأطاعوه، لم يَعُد ممكنًا أن يأتينا موسى من جديد، وإنَّما ها هو فرعون
يُكرِّر نفسه فينا ويتكرَّر ويتجبَّر بنا قبل أن يكون علينا، فهل يمكننا أن نستعين
بالله ونبدأ ونبدع ونصبر حتى نحقق أمر الله في خلقنا واستخلافنا وننتصر..
( سورة القصص 4 – 8 )
ألا يمكننا
حين نأخذ بالأسباب وقد أصبحت في عالمنا مُيسَّرة ممكنة، أن نجيب عل السؤال الذي طال
انتظار إجابته :
لماذا نحن العرب بالذهنية التي تعمل باستمرار على تبرير
الأخطاء وتحميل الغير مسؤولية كُلّ ما يصيبنا وما نحن عليه؟، لم نستطع أن نخرج بعد
من كهوف التخلُّف طوال كُلّ هذه القرون ومئات السنون وإن قطعت هذه السنين بعض
محاولات لم تنجح وسرعان ما تعاود أدراجها وتعيدنا منتكسة لنفس مربع التخلُّف
الحزين، بينما إنَّ ما وصلت إليه اليابان من تقدم يذهلنا لم تكُن قد بدأته منذ زمن
بعيد ولم تجاوزه إلَّا ما يزيد قليلًا عن قرن من الزمان، ودول شرق أسيا بدأت بعد
ذلك بكثير، بل إنَّ روسيا والصين وما وصلا إليه ويترقبهما العالم الذي في طريقه أن
يكون جديدًا كانا قد بدءا بعد ذلك أيضًا، هذا سؤال يمكن أن تجيب عنه نخبة شابة
جديدة، تخلق نفسها إذ تفلت نفسها من استمرار الدوران في هذا الواقع فتقاطعه وتقاطع
طريقته في التفكير، فتفكر بوعي، فتمتلك رؤية، فتعمل بإرادة، فتبدع النموذج.
فهل يستطيع
الشباب خلق بيئة جديدة يمكنها أن تشكل نموذج يحاكيه المجتمع
إنَّما تلزمك
الحرية، لا يمكن لأحد أن يمنحك إيَّاها أو يمنعك إيَّاها، فهي قدرة إرادية تدور
داخل عقلك وطريقتك كيف تفكر.
فكر واقرأ
وابحث وادرس واكتب وعبِّر عن نفسك وتكلم، فالحقيقة تريد أن تصل إليك بنفس القدر
الذي تبحث أنت عنها.
أنت لست وحدك،
هذا الكون الكبير دائرة كبيرة داخلها دوائر كثيرة، إنَّما أنت مركزها جميعًا، أنت
مركز كونك ووجودك، وكُلٌّ يبدأ من عندك إن تُرِدْ، أنت الذي يمكنك أن تحرك الدوائر
كلها من حولك أن تتحرك حسبما تراها وكيف تريدها.
أنت مركز
الدائرة، أنت مركز هذا الكون والعالم وكل ما من حولك محيط
.
فإن كنت قد
سألت نفسك أو بادرك السؤال يومًا فعرفت أنَّهُ مَن كنت أنت ومَن تكون، فمَن أنت،
وعرفت مِن أين جئت وما الذي قد أوصلك لما أصبحت عليه وعرفت ما أنت عليه، حيث إنَّك
تعيش فيه، فعليك أن تعرف الآن إلى أين تريد أن تذهب وأين يمكنك، وماذا أصبحت تريد
وكيف تحقق ما تريد ومالذى تنتظره ولماذا تنتظر، قد تطول المسافة لكنَّها حتمًا
تنتهي وتنقطع، وقد تنتهي المسافة وأنت مازلت تنتظر، رُبَّما مسافة أخرى في حياة
أخرى، لكننا لا نعلم عنها شيئًا والله أعلم، لكن الله أخبرنا أنَّها حتمًا مرتبطة
بالمسافة التي كُنَّا عليها وكيف قطعناها وإلى أين وصلنا بها وإلى أين أوصلتنا، إذ
أنَّهُ كما ولا بُدَّ أن تعرف ليس للإنسان إلَّا ما سعى.
الحوار مع
المسافة بكُلِّ ما يستتبعة من أسئلة لا نهائية، لا ينتهي، إذ يستمر استمرار الوجود
والإنسان والحياة، لكن هذا الحوار على هذه الوريقات والصفيحات في مثل هذه المسافة
لا بُدَّ له أن ينتهي الآن.
انتهى الحوار.
يمكنك أن تبدأ هذا الحوار فيك، عنك ومعك حول
المسافة وما تبقَّى منها.
المسافات .
ليست هناك تعليقات
نرحب دائما بتعليقاتكم