القبائل و القبلية وكل كليلة
د.أ حمد الصاوي
كنت قد عزمت على ألا أكتب مطولا
خاصة في ظل الإيقاع الدموي السريع للأحداث في منطقتنا ولكن يبدو أن هناك ضرورة للنكوص
عن ذلك.
بالطبع هذا الحديث بمناسبة احتفال القبائل العربية مع "بعضيهم
" يوم ٢٦ أكتوبر بمناسبة ٦ أكتوبر وهي مناسبة وطنية عامة تجمع كل المصريين على
اختلاف معتقداتهم الدينية وتباين طبقاتهم الاجتماعية بل وعلى اختلاف تحيزاتهم السياسية
وذلك أمر أراه مشينا ونذير شؤم وعلامة خطر تقتضي الأمانة العلمية قبل الواجب الوطني
التنبيه له.
وأول ما يستحق التسجيل هنا أن القبيلة التي تقوم العلاقات فيها على رابطة
الدم أو علاقات القربى كانت فيما مضى من الأزمان بمثابة الوحدات السياسية في المجتمعات
وتلك مرحلة مضت من مراحل تطور المجتمعات.
في منطقتنا جاء الإسلام وجعل رابطة الإيمان هي مناط الوحدة السياسية سواء
كانت الخلافة أو السلطنة أو الدولة أو الإمارة وحاولت القبلية مقاومة ذوبانها في المجتمعات
على أساس مبدأ المساواة لردح من الزمن ومازالت تحاول ذلك في بعض المجتمعات التي تفتقد
لهوية وطنية صلبة أو تعاني من معضلات الاندماج الوطني والأمثلة كثيرة وكلها تنضح دما
وفوضى لا ينكرهما إلا جاهل أو غرير.
ومصر
ومصر
ومصر هي أقدم دولة وطنية على وجه الأرض وما برحت أكثرها تجانسا وأصلبها
عودا فيما يتعلق بالاندماج الوطني العميم والهوية الوطنية الصلبة والمتماسكة حتى من
قبل أن تنشأ بها الدولة الوطنية الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر.
حاولت بريطانيا بكل السبل تطبيق سياستها الأثيرة "فرق تسد"
تارة لفصل الأقباط عن المسلمين فلما أعيتها الحيل أمام الروح الوطنية الغلابة وصلابة
الكنيسة القبطية والأزهر معا حاولت بالتبشير تفتيت وتحجيم الكنيسة القبطية وذهبت جهود
كرومر ومن جاءوا بعده أدراج الرياح أمام راية الهلال الذي يحتضن الصليب.
وحاولت بريطانيا أيضا منع اندماج المهاجرين من الريف في المدن بتشجيع
إنشاء وتمويل روابط أبناء محافظات ومراكز بل وقرى وفشلت تلك السياسة رغم نجاحها في
دولة مثل نيجيريا
ولم تنجح بريطانيا سوى في إنشاء جماعة الإخوان المسلمين لتكون معامل تقسيم
وفرز داخل أوساط المسلمين المصريين وتلك قصة تستحق أن تروى لاحقا.
ومن بعدها سعت المخابرات المركزية الأمريكية وكذا البريطانية لإثارة نعرات
متتاليات بشعارات منها اضطهاد الأقباط وتهميش الأقليات والبدو واستقلال النوبة وحقوق
المثليين ..ألخ
وهناك كتائب متقدمة من منظمات المجتمع المدني تتلقى تمويلا وتنشط من أجل
نفخ نار الفرقة في كل تلك الاتجاهات
هل مواجهة تلك الخطط تستلزم دعم التماسك والتلاحم الوطني والقضاء على
أي ممارسات من شأنها تعكير الصفو الوطني وتعريض الاندماج الوطني للخطر أم توجب ابتداع
وتشجيع والترويج لكيانات دون وطنية؟
خطيئتان ارتكبتا في هذا السياق وضد تيار المنطق والعقل والتجربة التاريخية:
المتصوفة واتحاد القبائل
هناك بزنس وتربح وتناحر على نفوذ ووجاهة وكلها تخلق دفاعا ذاتيا نشطا
من المستفيدين حتى ليسقط أمامها جوهر الإسلام ذاته ويدوسه المتنطعون بأحذيتهم.
خطورة الموقف في هذا التوقيت أننا في مرحلة أحرزت فيها الليبرالية الجديدة
وهي اتجاه سياسي رأسمالي شديد العداء للدول الوطنية ينتعل صندوق النقد والبنك الدوليين
لفرض سياسات على الدول المدينة من شأنها حسب كتاباتهم المنشورة والمترجمة للعربية وغيرها
من لغات العالم تقزيم دور الدول الوطنية ودفعها للانقسام إلى دول صغيرة ذات أسواق يمكن
السيطرة عليها وآية حرصهم على تحقيق ذلك أنك لن تجد نزعة إثنية أو طائفية أو حتى داعشية
إلا وتقف وراءها أجهزة استخبارات الناتو.
نعلم جيدا أن بمصر فراغا سياسيا يخشى البعض أن يملأه الاخوان مرة أخرى
رغم أن سياسات الحكومات المتعاقبة هي التي ساهمت في إزاحة القوى السياسية كلها وأخلتها
بسبل شتى لتترك فراغا تتمدد فيه كافة المنظمات المتحدثة باسم الدين
يظن البعض وبعض الظن إثم وبعضه ليس كذلك أنه يمكن ملء الفراغ السياسي
بروابط اعتقاد خاص كالصوفية والسلفية
أو بروابط الدم مثلما هو الحال في ابتكار إتحاد القبائل
لكن المجتمعات عندما تتطور ويحسن إحساسها بالوطنية الجامعة يجب أن تساعدها
الدول على المضي قدما لإزاحة كافة الممارسات والنظم واللوائح التي من شأنها ترسيخ انقسام
أو تعكير صفو اندماج وطني هو في حالة مصر الأكثر تجانسا وصلابة في هذا الكون.
الملاحظة الأهم هنا أن هذا الإتجاه للقبلية لن يهاجمه الاخوان مطلقا لأنه
في جلية الأمر لا يشكل تهديدا لهم بل هو يحرث الأرض ويهيئ الأجواء لهم وكل ما عليهم
قوله لعموم المصريين من غير تلك القبائل أن تلك عصبية جاهلية محاها الإسلام فاجعلوا
أنفسكم في أمة محمد وهذا باب جديد للتجنيد يتسع بقدر اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء
وعلى وقع خطى غليظة للفساد العميم في كل ركن من أركان البلد.
لا تنكصوا على أعقابكم القهقرى
ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة إنكاثا.
ليست هناك تعليقات
نرحب دائما بتعليقاتكم