متاح الآن

أين يرى الناصريون موقعهم في عالم في طريقه للتغيير؟

 



في ندوة عقدها المؤتمر الناصري العام مع المفكر الأستاذ الدكتور أحمد الصاوي، حول رؤية الناصريين لموقعهم من العالم الذي يسير في طريق التحول الكبير تناولت الندوة عدة محاور تتصل بالتغيرات التي يشهدها العالم والوطن العربي ورغم أنها لم تغادر السياق العام الفاعل منذ قرابة القرنين إلا أنها تميزت بوتائر أسرع وتأثيرات أكثر عمقا وأشد ترابطا بما يسمح لنا أن نقرر أننا أمام واقع متغير يوجب على كافة المعنيين بمستقبل الأمة العربية الاهتمام بسبر أغوار تلك التغيرات بكل جدية ودقة. ذلك أن الإدراك العلمي لتلك التغيرات العميقة هو بمثابة "التشخيص" الموضوعي للواقع العالمي والعربي والوطني والذي يوجب إعادة النظر في خطط وأولويات وأدوات العمل السياسي لأي قوى أو تيارات سياسية تضع نصب عينيها مغالبة التردي الشامل الذي انتهت إليه أحوال الأمة العربية خلال العقود الخمسة الأخيرة.

فيما يلي تلخيص لأهم ما تم تناوله في هذا الإطار:

أولا: تطور الظاهرة الاستعمارية

تطورت هذه الظاهرة بوتيرة متسارعة خلال العقود الأخيرة فبعد الاستعمار الكولونيالي وحقبته التي عرفت بسياسة الأحذية الثقيلة جاءت الإمبريالية الجديدة التي حاولت تحقيق أهداف الاستعمار في السيطرة على الموارد والأسواق العالمية بأقل قدر من استخدام القوة العسكرية مع الاعتماد على حزمة من الوسائل يمكن تلخيصها بالسيطرة عن بعد سواء بالتحكم في اختيار نخب الحكم في دول العالم أو توجيه سياسات تلك الدول للاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وتعتبر الانقلابات العسكرية والشركات المتعددة الجنسيات أهم ملامح تلك الفترة.

وعقب تفكك الاتحاد السوفيتي وحل حلف وارسو انتقلت الظاهرة الاستعمارية إلى مستوى مختلف فيما يعرف بحقبة سيطرة القطب الأوحد وعادت للاستخدام المباشر والكثيف للتدخلات العسكرية لتغيير أنظمة وتثبيت غيرها مع استخدام متزايد لأدوات إدماج اقتصاديات دول العالم في الاقتصاد الرأسمالي العالمي مثل اتفاقيات الجات وحماية الملكية الفكرية والأهم من ذلك حزمة برامج صندوق النقد الدولي الخاصة بالتثبيت الاقتصادي واتفاقات البنك الدولي المتعلقة بالتكيف الهيكلي وقد نجم عن ذلك إحداث تغيرات جذرية في اقتصاديات دول العالم الثالث وبالتبعية انقلابا يكاد يكون حاسما في البنى الاجتماعية والثقافية فيها.

ثانيا: الليبرالية الجديدة:  

قبل أن يوقع جورباتشوف شهادة وفاة الاتحاد السوفيتي كانت الرأسمالية العالمية وقد أيقنت أنه لم يعد أمامها قوة مناوئة قادرة على خلق بديل ينافس "النمط الرأسمالي" ظهرت الليبرالية الجديدة كاتجاه فكري يدعو لعودة الرأسمالية لصيغتها القديمة الصافية والمنزهة عن تدخل الدولة العميق في عمليات الإنتاج والتحكم في الأسواق بزعم أن هذا التدخل أدى لتشوهات عميقة في آليات العرض والطلب وعطل من النمو الاقتصادي.

ويمكن القول بأن ذلك الاتجاه أحدث قطيعة نظرية مع ما عرف بالإجراءات "الكنزية" قبل أن تحدث تلك القطيعة فعليا عقب تولي كل من مارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريجان في الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع الثمانينات وكلاهما أيد بقوة تلك الليبرالية الجديدة ومن ثم امتدت الموجة لتستغرق الشركاء الأوربيين بحكم ترابط الاقتصاد العالمي وعالمية النشاط الرأسمالي ثم لاحقا دول العالم الثالث وخاصة عبر الصندوق والبنك الدوليين وبرامجهما المختلفة.

وفي إيجاز هو حتما مخل يمكن القول بأن الليبرالية الجديدة منحت قوة تأثير هائلة في حقبة "القطب الأوحد" فما عجزت عن فرضه بآليات الإكراه "السلمي" استخدمت القوة العسكرية الغاشمة وخارج نطاق القانون الدولي لفرضه.

ويمكن تلمس ملامح هيمنة الليبرالية الجديدة في عدة عناوين يستحق كل منها دراسات مستفيضة هي ربما الأكثر أهمية في أي مسعى لتشريح الواقع في كل دول العالم ومن تلك العناوين:

1 – تقزيم الملكية العامة أو ملكية الدولة وإخلائها من مجال الإنتاج ثم تقديم الخدمات.

2 – حرية تنقل رؤوس الأموال وليس فقط السلع وما رافق ذلك من إطلاق حرية التحويلات الدولية.

3 – تقسيم الأسواق الكبيرة لتسهيل السيطرة الرأسمالية عليها وقد أفصح البنك الدولي في تقرير له عن تشجيع نشأة الدول دون المليون من السكان فيما أسماه عصر الدول الصغيرة ويمكن أن نضع تحت هذا العنوان كافة علميات تشجيع النزعات الانفصالية وتفكيك الدول وبالطبع خطط إعادة تقسيم الدول العربية وإن كانت لتلك الأخيرة دواع إضافية تتصل بالصراع العالمي على مواردها وموقعها.

ثالثا: تنميط العالم

نجم عن طغيان الليبرالية الجديدة تنامي الإحساس بأن العالم صار حرفيا وليس مجازيا قرية صغيرة ولعل السبب وراء ذلك هو سياسة "عولمة الإنتاج" و "تنميط الاستهلاك" وكلاهما من ضرورات تسهيل سيطرة الرأسمالية العالمية على الأسواق وتخفيض تكلفة الإنتاج وتعظيم الأرباح والقضاء على أية حواجز تحول دون تدفق الاستثمارات والسلع معا.

ورافق ذلك تغييرات عميقة على البنى الاجتماعية في الدول التي تتعاطى مع الليبرالية الجديدة والاقتصاد "المعولم".

فمن جهة أصبحت قرابة 20% من دول العالم تتحكم في نحو 85% من الثروة العالمية وداخل الدول أصبح ما بين 20% و 15% من السكان يحوزون من 80% إلى 85% من الثروة الوطنية وهو ما يعني بوضوح زيادة معدلات الفقر وأعداد الفقراء بشكل مطرد.

وقد اقترح برجينسكي المستشار الأسبق للأمن في أمريكا أن تتم تهدئة خواطر الفقراء حتى لا يتعرض النظام الرأسمالي لخطر الثورة ضده عبر المساعدات الطوعية التي تقدمها دور العبادة والجمعيات الخيرية وقدم هذا الاقتراح لمؤتمر عقدته مؤسسة جورباتشوف في فندق فيرمونت بسان فرانسيسكو مطلع التسعينات وسيكون من السذاجة عدم ربط الظهور المفاجئ والنشاط الكثيف للجمعيات في مصر ولاسيما تلك التي تطلب التبرعات لعلاج المرضى ودعم الفقراء ..ألخ.

ومهما يكن من أمر فقد أدى تنميط العالم ليس فقط إلى التأثير على البنى الاجتماعية وتبدل المواقع على مدارج الثروة بل أحدث انقلابا حاسما في منظومة القيم الاجتماعية ومن ثم تأثرت الثقافة بمعناها الشامل بقوة حتى بتنا أمام مجتمعات تكاد تختلف كليا ’طبقيا وثقافيا’ عن تلك التي كانت قائمة في حقبة التحرر الوطني.

رابعا: التشظي السياسي والترهل المؤسسي

تأثرت مؤسسة الدولة وأدوارها المختلفة بالنمط الذي فرضته الليبرالية الجديدة سواء نتيجة لتراجع وظائفها الإنتاجية أو بسبب تحجيم قدراتها الإشرافية والتوزيعية حتى باتت أقرب إلى الحارس على مصالح الرأسمالية والحامي لها ولو باستخدام أقسى أساليب القمع الاجتماعي والأمني.

ولحق الترهل المؤسسي بشكل عمدي كافة الأشكال التضامنية التي يمكن أن تجتمع تحت راياتها معارضة مؤثرة للاستغلال الرأسمالي الجائر ونرى ذلك جليا ليس فقط في النقابات العمالية والمهنية حول العالم بل وأيضا في الأحزاب السياسية.

يمكن القول بأن "التشظي" الاجتماعي ثم السياسي هما من أهم الأدوات التي ترعاها وتمولها الليبرالية الجديدة وذلك أمر يكاد أن يكون بديهيا ومعلوماته أكثر من متوفرة.

خامسا: هيمنة الدولار وفوضوية التحويلات المالية

ظل الدولار منذ إعلان نيسكون التخلي عن سياسة الغطاء الذهبي للعملة الأمريكية يلعب دورا متعاظما في الاقتصاد العالمي ومع إطلاق حرية تنقل رؤوس الأموال في حقبة الليبرالية الجديدة أصبحت للبنوك ومؤسسات التمويل سطوة كبرى على العالم بفضل أوراق الدولار التي تطبع في أمريكا لتشتري بها البترول (البترودولار) وكل مستلزماتها وتقرضها للدول وتتحكم بها في سياساتها ومصائرها.

سادسا: صندوق النقد والبنك الدوليين

يعد برنامج التثبيت الاقتصادي الذي دشن لمعالجة ما سمي بأزمة الاقتصاد المصري أبرز أدوات إخضاع الدول وتدمير اقتصاداتها الوطنية وقد أدخلت عليه عدة تعديلات بعد استنباته الأول في مصر منتصف السبعينات بحيث يؤدي إلى:

*تخفيض الإنفاق العام على الرواتب والأجور

*تخفيض قيمة العملات الوطنية أمام الدولار والعملات المرتبطة به

*زيادة الضرائب الغير مباشرة

*زيادة الدين الخارجي والداخلي معا.

أما برامج التكيف الهيكلي التي يرعاها البنك الدولي فقد أدت في كافة الدول التي أقرتها إلى تقليص ملكية الدولة لوسائل الإنتاج لأدنى مستوى عن طريق بيعها بأسعار متدنية لمستثمرين محليين أو أجانب ورسخت من تبعية الأسواق للرأسمالية العالمية وغني عن كل بيان أن تلك البرامج أحدثت تغيرا هائلا في البناء المجتمعي وساعدت على تركيز الثروة والملكية في أيدي شريحة اجتماعية ضيقة احتلت سلطة الدولة وطوعتها لمصالحها.

 وكذلك خففت الطابع الإنتاجي لصالح ما يسمى بالكمبورادور مع نشر عميم للفقر وخلق حالة من عدم الاستقرار على كافة الأصعدة.

وتعد مصر النموذج الأكثر نجاحا في تاريخ تطبيق برامج الصندوق والبنك لتغيير الاقتصاد والمجتمع معا.

سابعا: اقتصاد المستعمرة

يمكن تلمس ملامح اقتصاد المستعمرة في الدول التي تخضع لإملاءات الصندوق والبنك الدوليين في:

*تراجع الطابع الإنتاجي وزيادة الاعتماد على الخارج.

*عجز ميزان المدفوعات التجاري.

*الارتفاع الهائل في المديونيات الخارجية وتكلفة خدمة أعباء الدين.

*التضخم الزاحف المترافق مع ارتفاع كبير في معدلات البطالة

*اتساع الفوارق بين الطبقات والسعي المستمر لتعزيزه.

*ارتفاع معدلات الفقر ودفع الطبقة الوسطى دفعا إلى تحت خط الفقر.

*ارتهان القرار الوطني بالتفاهمات والإملاءات الإمبريالية.

ثامنا: خطط برنارد لويس للشرق الأوسط

تناول الحديث هنا خطط برنارد لويس التي أقرتها واشنطون لإعادة دول المنطقة العربية لذات الحالة التي كانت عليها قبل قرابة 500 عام أي إلغاء الدول الوطنية وإنشاء دويلات على أسس دينية أو طائفية أو عرقية وهو أمر يجري فعليا في دول مثل السودان والعراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال ويقدر له أن يشمل بقية الدول العربية بما فيها مصر.

حالة مصر لكونها دولة وطنية متماسكة يتم فيها ليس فقط تحطيم وظائف الدولة بل هناك محاولات مستميتة لإثارة نزعات دينية وعرقية وما إنشاء تنظيم الإخوان المسلمين وتمويله منذ فترة الاحتلال البريطاني إلا محاولة لخلف تمايز طائفي/ سياسي داخل مصر.

تاسعا: الناصريون في خط المواجهة

يستدعي الواقع المتغير الناصرية لمواجهة اقتصاد المستعمرة ونتائجه الاجتماعية التي أدت لتوسيع الفوارق بين الطبقات وإغلاق مسارات الحراك الاجتماعي

الناصرية باتت احتياجا تفرضه وقائع خطط تقسيم المنطقة والتمكين للكيان الصهيوني لاسيما مع الانتكاسة الميدانية والسقوط الأخلاقي للبدائل التي تراعاها الإمبريالية لقطع الطريق على العروبة كرابط وهوية وعلى غاية إنشاء دولة عربية واحدة.

عاشرا: مهام المستقبل

أ – قيادة البناء المعرفي

1 – إعادة تعريف المصلحة الوطنية العليا.

2 – صياغة متجددة وواقعية للإجماع الوطني

3 – انتاج معرفي جديد يشل تشريحيا علميا وشاملا للأوضاع المجتمعية

ب  - إنضاج الصيغ التنظيمية

1 – إعادة تأهيل وبناء الكوادر

2 – اكتشاف الإمكانيات الهائلة لوسائل التواصل الاجتماعي والبدء في تجريبها.

3 – إنشاء التحالفات وإدارتها.

 

 

ليست هناك تعليقات

نرحب دائما بتعليقاتكم