متاح الآن

سوريا : الممر قبل المستقر




الدكتور أحمد الصاوي*

مفكر قومي، باحث ومحلل سياسي


لطالما كانت "سوريا الكبرى" من منظور الأمن القومي المصري منذ فجر التاريخ جزءا من المجال الحيوي لمصر فاستقرارها يعني الأمن لوادي النيل واضطراب الأحوال بها كان يسمح بانطلاق الغزوات تجاه مصر سواء من البدو ساكني الرمال أو من الشعوب التي تقطن شمال وشرق سوريا الكبرى والأمر هنا لا يحتاج لسرد للتدليل على نجاعة هذا المنظور.

ببساطة مصر معنية ومباشرة بما يجري في كل سوريا الكبرى؛ سورية ولبنان وفلسطين، وصولا لتركيا شمالا والعراق شرقا بغض النظر إن كان الحكم في القاهرة "عروبيا" أو "وطنيا مصريا".
لابد من الإشارة ابتداء إلى أنه من الغفلة والحماقة أن تعتبر مصر نفسها مراقبا بقلق أو وسيطا ناصحا أو مترقبا لخطر يداهمها فيما يجري بطول وعرض الإقليم بخطى متسارعة شديدة الوقع بقدر ما هي متسربلة بالدماء.
يقودنا ذلك إلى ما يجري بالجمهورية العربية السورية مؤخرا من هجوم تدعمه بكل جلاء العواصم الثلاث: واشنطون وأنقرة وتل أبيب تمويلا وتسليحا وعملياتيا ومن لا يبصر تلك الحقيقة فهو في تلك أعمى البصر والبصيرة.
لا يعني بالنسبة لي على الأقل أن "حكومة الأسد الابن" هي الطرف المستهدف وهي أيضا ليست مطلقا البتة الجهة التي أدافع عنها إذ هي وبلا جدال تتحمل نصيبا وافرا من تهيئة الأوضاع المحلية للانفجار وفتح أبواب البلاد لكل طامع يغري من يبحث عن سلطة ومال ويتحالف مع من يقبل غرورا ويستغفل من يستغفل جهلا بالحقائق الاستراتيجية.
لا يمكن لعاقل أن يرى في نهج الأسد "الأب والابن" نهجا جديرا بالدفاع عنه بل وأزيد على ذلك نهج البعث كله أينما حكم وتحكم
قولا واحدا ومنعا لأي مزايدة أو إدعاء بالباطل لسنا بصدد الدفاع عن نظام بشار الأسد
ولكن
لا يعني ذلك مطلقا أن نعتبر تلك العصابات الممولة والموجهة من أجهزة الاستخبارات الأجنبية بديلا يدعمه أي عربي فهي محض تنظيمات "مستنعلة" تخدم شاءت أم أبت خطط تقسيم المنطقة العربية وهذا ليس بتجن عليهم ولكن بما رأيناه على أرض الواقع ممارسة وبما نشر في الدراسات والأبحاث والمعلومات عن نشأة تلك التنظيمات وشخوصها ومسارات تمويلها.
الأوطان ليست حقلا لتجربة ما سبق تجربته وأرواح المواطنين ليست نهبا مباحا لمن تتملكهم شهوة الانتقام ويسوغون استباحة الدماء بتفسيرات مغرضة ومتنطعة لنصوص الدين
ليست جبهة النصرة ولا داعش ولا أي من تلك العصابات التي تضم مقاتلين مأجورين من جنسيات مختلفة ممثلا للشعب السوري ولا حتى أولئك الذين يخدمون تحت رايات مذهبية بتمويل وتدخل فظ من دول وأطراف إقليمية متعددة.
ما يجري الان في خط "حلب-إدلب" هو جزء من خطط إعادة تقسيم المنطقة لتمكين تل أبيب من الاستيلاء على كامل أرض فلسطين التاريخية وفرض هيمنة الكيان على ما يسمى الشرق الأوسط الجديد وهذا ما أعلنه نتنياهو على رؤوس الأشهاد وبالخرائط مع تقسيم الدول العربية وتوزيع بعض أراضيها على أطراف إقليمية أخرى منها تركيا وإيران لمن يرون بعين واحدة كليلة.
لا يمكن النظر للتحرك صوب حلب-إدلب بمعزل عن مسار الحرب في غزة والحرب في لبنان بل ولا حتى عن مسار الحرب الروسية-الأوكرانية التي تنغمس فيها دول الناتو قاطبة
ما سلف ليس بحاجة لتدقيق معلومات حول ما جرى من وقائع مادية مع أهمية ذلك للتحقق من احتمالات واردة تشمل ترهل أو تواطؤ قوات الجيش السوري وأيضا "تفهم" القوات الروسية في حميميم واللاذقية.
قطعا سنحتاج بعض الوقت لتفهم تقاطعات الهجمات الأخيرة مع المباحثات المتعثرة بين سوريا وتركيا بوساطة روسية وأيضا مع مسار أستانا المرتبك نتيجة لجمود موقف حكومة الأسد وافتقاده لأدنى درجات المرونة لاستيعاب الفريق الوطني من المعارضة السورية لفصله عن حشد الفصائل الممولة من المخابرات الأمريكية والتركية والبريطانية والفرنسية.
كانت هناك فرصة سانحة للوصول لتفاهم مع تركيا الرافضة لتقسيم سوريا والعراق خشية نشأة دولة كردية مستقلة في كل من العراق وسوريا لما لذلك من تأثير مدمر على بنية الجمهورية التركية ذاتها
ولكن دمشق تمادت في فرض شروطا لا تتناسب مع حقيقة موازين القوى على الأرض ويبدو أن الدعم الروسي القوى وافتقاد الخيال السياسي حالا دون اغتنام فرصة كانت سانحة ولربما رأى البعض في دعم أنقرة للهجوم على حلب جزءا من التفاوض مع دمشق ولكن في ذلك مغامرة غير مأمونة العواقب إذا ما تغلب التوجيه الأمريكي لتلك الفصائل ليصل بالصراع إلى غاية تقسيم سوريا ففي هذه الحالة سيكون على تركيا أن تقبل بالاستيلاء على قسم من شمال سوريا نظير نشأة الكيان الكردي مع الرهان على عرقلته لاحقا.
وبعيدا عن الحسابات المعقدة التي يحتاج تدقيقها لمعلومات لم تتوفر بعد فإن ردة فعل موسكو بحاجة أيضا لمراقبة دقيقة فلربما تكون قد يأست من دمشق وتيقنت عدم قدرة الأسد على قيادة مصالحة وطنية فرتبت أمرا مع أنقرة.
في كل حال ما يجري في حلب-إدلب وثيق الثقة بمجرى الصراع حول فلسطين ولاسيما الحرب في غزة وفي لبنان خاصة من زاوية تحقيق مصلحة إسرائيلية مباشرة بحصار توريدات السلاح لحزب الله خلال فترة هدنة الشهرين التي ستنشب الحرب مجددا قبيل انقضائها.
حرب التنظيمات الإرهابية على "حلب-إدلب" ليست بحال من الأحوال حركة شعبية وطنية ضد حكومة دمشق ففي ترويج ذلك الزعم الأثيم مغالاة مغرضة تفتقد للحقيقة وتضليل بذيء السمعة بقدر سذاجته.

ليست هناك تعليقات

نرحب دائما بتعليقاتكم