متاح الآن

كبسولة اقتصادية: قروض صندوق النقد امتهان لشرف الوطن

 







يكتبها د. أحمد الحويط

القروض هى أحد وسائل سد العجز فى ميزان المدفوعات وعجز الموازنة العامة، تلجأ لها الدولة عند حاجتها لتمويل مصروفاتها، وتنقسم لقروض داخلية وخارجية، فهو من الناحية المالية والإقتصادية تصرف سليم، ولكن خطورة قروض صندوق النقد الدولى تحديدا، تتعدى الجانب الإقتصادى للجانب السياسى، ويتمثل ذلك فى الشروط المصاحبة القرض، حيث تجبر الدول المقترضة على إتباع سياسات تضر فقراؤها وإقتصادها الوطنى، بإجبارها علي إدماج الإقتصاد المحلى فى الإقتصاد العالمى، بغض النظر عن مدي ضعف الإقتصاد الوطنى، ما يحول الدولة لأرض مستباحة لقوى الإقتصاد العالمي، فتتحول الدولة لإحتياطى عمل رخيص وترهن مواردها الطبيعية، وهو ما يمكن تسميته إستعمار الرأسمالية العالمية ،ويتناقض تماما مع الإستقلال الوطنى، ويعوق عملية التنمية الوطنية المستقلة المعتمدة علي الذات، وخير مثال على ذلك هو تجربة ماليزيا والبرازيل ،التى لم تستطع أى من الدولتين أن تنطلق لرحاب التنمية،إلا بعد رفضهما لروشتة البنك والصندوق الدولى .

    يشترط صندوق النقد على الدولة التى ترغب فى الحصول على قروض منه ،التقدم بما يسمى خطاب نوايا، وهو عبارة عن تقديم ضمانات من الحكومة، معناه تقديم بلدها "جارية" فى بلاط صندوق النقد، الذى تسيطر علية الولايات المتحدة والدول الصناعية، ليفعل بهذه الجارية ما يشاء، ويتعهد فى هذا الخطاب بالإلتزام بتطبيق كافة توجيهات الصندوق، والتى تتلخص فى تخفيض الإنفاق الحكومى على الخدمات التى يستفيد منها الفقراء وغيرها مثل الدعم والعلاج والتعليم المجانى، وهو ما يعنى ببساطة خضوع الدولة للصندوق، ليس ماليا وإقتصاديا فقط، ولكن إنبطاح سياسى واضح من خلال آلية المراقبة التى تقوم بمراقبة سياسات الحكومة، حيث تقدم تقرير ربع سنوى عن مدى إلتزام الدولة بما التزمت به فى خطاب النوايا، يمكن للصندوق الإمتناع عن بقية شرائح القرض، المعنى الواضح لذلك أن الدولة التى تقبل هذه الوضعية، تضع أغلالا في رقبتها وتقدم نفسها للصندوق ليفعل بها ما يشاء، وتنتظر منه الرضى والقبول، وهو ما يفسر التصريحات الصادرة من بعض المسؤلين والوزراء، بمزايا موافقة الصندوق علي منح القرض، وأنه سيفتح طريقا واسعا للحكومة لمزيد من الإقتراض، بإعتباره فى حد ذاته رسالة طمأنة لباقى المؤسسات الدولية، وأن هذه الدولة التعسة لديها القدرة علي سداد القرض وفوائده.

    ولكن ماهى الخطورة فى الإقتراض من الصندوق غير التبعية المالية و السياسية والتقدم كجارية للمؤسسات المالية العالمية ,الأجابة ببساطة أن الصندوق يعمل على أن تظل الدولة المدينة "زبونا " دائما لديه، عبر ما يسمى بجدولة وإعادة جدولة الديون أو " إعادة تدوير الديون"، بواسطة منح قرض جديد يسمح فقط بسداد الفوائد مع بقاء الديون القديمة كما هى ويضاف لها الدين الجديد، مما  لايسمح للدولة المدينة من الخروج من دائرة الديون الجهنمية، بحيث تصل فى النهاية لبيع أصولها للرأسمال الأجنبى، وهو مايعنى القضاء التام على إمكانية الدولة المقترضة فى عمل تراكم للأصول الرأسمالية إلا بما يخدم مصالح الدائنين، وهو مايذكرنا بتجربة مصر فى بداية القرن الماضى وبيعها لأسهمها فى قناة السويس وتعرضها بعد ذلك للأحتلال المباشر،الخطر الثانى فى قضية تراكم الديون هو تحمل الدولة فوائد متزايدة، تدفع من إيراداتها خصما من الأموال الموجهة للخدمات التى يستفيد منها الفقراء، أضافة لتحمل هؤلاء الفقراء مزيد من الضرائب غير المباشرة المفروضة على الأستهلاك، حيث تحرم توجيهات البنك الدولة من فرض ضرائب مباشرة على رؤوس الأموال، كما تحرمها من زيادة مواردها من الجمارك على الواردات طبقا لأتفاقية التجارة العالمية .

والسؤال المنطقى بعد كل ما سبق، هو ماذا تفعل حكومة مدينة وتعاني عجزا فى ميزان مدفوعاتها وموازنتها العامة؟ الأجابة ببساطة هو تخفيض النفقات الحكومية غير الضرورية ،بالأضافة لحسن إستغلال الموارد المتاحة، كما يمكن إتباع سياسات تشجع الأدخار المحلى، وتقليل إستيراد السلع الكمالية والإعتماد على المنتجات المحلية، وقصر الإستيراد على مستلزمات الإنتاج والتى لا يمكن إنتاجها محليا، بمعنى واضح الإعتماد على الذات فى الإنتاج والتنمية، ولن يتم ذلك إلا بقدر كبير من المصارحة، ومشاركة كل أصحاب المصلحة فى وضع خطة ملزمة للكافة للخروج من المأزق الحالى، الذى لن يفلح طرف واحد فى الخروج منه، بمعني صياغة رؤية وطنية تضع فى إعتبارها صالح الوطن أولا وأخيرا، ولا داعى لتقديم الوطن ليمارس رأس المال العالمى الدعارة معة، فهو اخلاقيا عيب ووطنيا خيانة .      




ليست هناك تعليقات

نرحب دائما بتعليقاتكم