متاح الآن

حورية عبيدة تكتب : غزّة بين "مُحمّد الدُّرّة" وقمع الحُرّيات !!

 




حورية عبيدة*
 كاتبة وأديبة وقاصّة

لماذا خفَّ وفَتُر الاهتمام بالحرب على "غزّ.. ة" رغم الكوارث والمذابح المتواصلة من جيش الاحتلال المجرم ؟! هذا السّؤال يُتداوَل الآن كثيرًا.. فما السّبب ؟ وما الحل لإعادة زخم الاهتمام والمقاطعة كما كان بل وأشدّ ؟ وهل من مقترحات على المستويين القريب والبعيد لتبقى القضية متوَهجة بنفوسنا ؟ أم أنّ الاعتياد على المشهد الدّمويّ يقتل الاهتمام وحُسن التّقدير ؟


بدايةً.. لابد من امتطاء ناصية اليقين بأنّ الصّراع بيننا وبين "اليـ.هو..د والإسـ.را.. ئليين والصّـ.ها.. ينة" صراعٌ فكريّ ودينيّ.. صراعُ وجودٍ لا حدود؛ وأنّ فلسـ.طين ليست مجرد قضية تحتاج للدعم.. وعلينا كذلك أن نفهم أنّ الضّحايا وكل من يدافع عن تلك القضية المصيرية هم شـ.هداء وليسوا مجرد أموات.. وأنّ المعركة بيننا وبينهم مصيرية وأبدية وليست مرحلية.. هي معركة الأمّة بأكملها وليست معركة البعض دون الآخر.. إن لَم نفهم ذلك فلنبكِ على أنفسنا لا على أهل "غزّ..ة".


 محتّمٌ علينا معرفة أنّ إضعافَ العقيدة الإسلاميّة في النّفوس مقصودٌ.. وتسفيه المُقـ.دّس والقيم العربية والحطَّ من شأنها  مُدبَّرٌ.. وهدْم التّعليم والصّروح العلمية والسّخرية من الرّموز والعلماء والتّاريخ واللغة العربية والاستخفاف من شأو المُعلم متعمَّدٌ.. وانهيار المنظومة الأخلاقية والإبداعية مُترصَّدٌ له.. وتصَدُّرَ حملة المباخر والمنافقين المشهد الإعلاميّ مُبَيتٌ له.


النتيجة لكل ما سبق أنّا لم نعد نفهم أنّ الله خلقنا أحرارًا؛ وأنّ العبودية له وحده؛ وهو الأحق أن نخشاه وألا نخشى غيره؛ وأن النّجدةَ ومساعدة المحتاج واجبٌ؛ وأن المسلم للمسلم كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا؛ والوقوف جوار المظلوم وعدم الرّضا بالذّل والهوان ومجابهة الغش والكذب والنّفاق والنّهب والاحتيال والقتل والسّرقة.. كلها منظومة أخلاقية متكاملة؛ يشارك في صياغتها: "الدّين والعُرف والتّعليم والإعلام" الذي تم الإجهاز عليها أو كاد !!


 محاربةُ العقيدة والهجوم على كل ما هو مقـ.دّس ومجابهة القيمِ العربية بل والفطرة الإنسانية كانت بفعلٍ مقصودٍ من أعداء الأمّة؛ يقابله انحناؤنا وهوانُنا وضَعفُنا وقبولُنا لإملاءاتهم.. حتى أفرزنا أجيالًا معيبةً عقيديًّا وقيميًّا.. إضافةً لحرص دولٍ ومنظماتٍ بعينها إبقاء العالم العربيّ مليء بالمشاكل والدّيون وطُرُق الحياة الصّعبة؛ كي يظل مشغولًا مهمومًا؛ لا يكاد يرفع رأسه لينتبه لما يُحاك له من مؤامرات وتدابير.


المعاناة الاجتماعية والاقتصادية بل والسّياسية لشعوبنا؛ وعدم احترام حقوق الإنسان وقيمته؛ خلقت لدى العربيّ إحساسًا متواصلًا من الهموم؛ وفقدان الثّقة بالنّفس؛ والقلق؛ والتّوتر؛ والضّيق؛ إضافة إلى القهر وكبت الحريات.. كل ذلك عوَّدهم على عدم التّعبير عن آرائهم.. فاستكانوا وتركوا الأمر لأُولي الأمر يتصرّفون كما اعتادوا !!


الشّعوب غير المتعلِّمة لا تملك "النّفَس الطّويل" لانتظار تحقيق نتائج بعيدة.. فدائمًا تستعجل الحصاد -تلك سمة نلحظها في العرب ولا نلحظها في اليـ.هو..د المعتادين على تدبير المكائد على المدى الطّويل- فإن لم تظهر النّتائج سريعًا يملّون وينصرفون !!


كثرة مشاهدة "العنف" -حتى في الأفلام والمسلسلات- التي تحمل كمًّا هائلًا من العنف والانفلات الأخلاقيّ؛ يجعل المخ يتخلص من: "الارتباط الشَّرطيّ الفطريّ السّليم" بين مشاهدة العنف والدّمِ والشّعور بعدم الارتياح.. فتصير مشاهد العنف على أرض الواقع أمرًا عاديًّا.. لذلك يتّسم النّاس مع الوقت بالسّلبية؛ ويقفون دون حراكٍ أو تفاعل؛ نتيجة كسر الحواجز بين النّاس والعنف.


وبالتّطبيق على "الحرب على غزّ..ة"؛ فإنّ الكَمَّ الهائل من صور الدَّمِ والضّحايا والأشلاء التي تبثها وسائل الإعلام والاتصال؛ جعلت المشاهد يمر عليها مرور الكرام دون أن تتأثر أحاسيسه، فقد تشبّعت رُوحه من هذا المشهد، وبات التّأثر بشكل لحظي؛ وسرعان ما ترحل الصّور من ذاكرته !!


الاعتياد على مشاهدة الوجع؛ تجعل المشاهدين في البداية: "ضحايا في منازلهم"؛ ومع استمرار مشاهدة الصّور الدموية العنيفة ضمن الاعتياد اليوميّ تزول الحساسية تجاه العنف فيصير أمرًا معتادًا !! وربما تتحول لصور ساخرة مُضحِكة.. تمامًا كطالب الطّب الذي يتهَيب من رؤية "جثّة" لأول مرة؛ حيث تنتابه مشاعر الخوف والقلق.. بل وقد يخشى ملامستها، وبمرور الوقت نجده يضحك ويتكلم بشكل عاديّ وهو "يُشرِّحها"؛ وقد يُطلِق النّكات وكلمات السّخرية على المتوفَّي؛ أو يُمسك ببعض أجزاء الجثّة ويحركها بطريقة مضحكة؛ كما لو كان صاحبها حيًّا يُرزق.. وقد شاهدتُ ذلك بنفسي.


كما أنّ الظّن أنّها حربٌ سريعة النّتائج سواء بالانتصار أو الهزيمة، لكن تحولها لحرب استنزاف طويلة -والأمد الطّويل لا تحتملها طبيعة الإنسان العربيّ حاليًا للأسباب السّابق ذكرها- والفشل العالميّ في إيقافها كان أحد عوامل الإحساس بالفتور تجاه أحداثها الدّامية.. والاعتياد علىٰ مشاهدها.


كذلك تختلف طاقة البشر.. فبعضهم لا يحتمل الصّور الدّموية فيهرب من المشاهدة؛ والبعض يهرب من إحساسه بالذّنب واليأس والعجز لعدم قدرته على المشاركة أو تخفيف العبء عن الضّحايا؛ والبعض الآخر لا يُشكّل لديه الأمر فارقًا يُذكر.


 * ما الحل على المدىٰ القصير والطّويل ؟


على المدىٰ الآني والقصير.. على الإعلام أن يركز على معاناة "الأحياء" بغزّ..ة أكثر من تركيزه علىٰ الأموات.. فالأموات انتهت أروحهم بصعودها للسّماء؛ بينما الأحياء ما يزالون يعانون، وتصوير معاناتهم أكثر فاعلية وتأثيرًا على المتلقي؛ لأنّه يشعر بالرّاحة تجاه الأموات لأنهم -علىٰ الأقل- ارتاحوا من الآلام والوجع.


بدليل رسوخ صورة الشّهيد "مُحمد الدّرة"؛ ذلك الطّفل الذي قتله جيش الاحتلال وهو بحضن أبيه، بينما لو كانت الصّورة له وهو شهيد فقط؛ لكان الآن مجرد رقم يُضاف إلىٰ أرقام آلاف الشّهداء.. عِلمًا بأنّ شهداءنا ليسوا أرقامًا؛ لكننا نُوَصِّف نظرة العالَم بصفةٍ عامةٍ.. نفس الحال مع الطّفلة "هدىٰ غالية" التي قصفها الاحتلال عند "شاطئ بحر غزّ..ة" عام 2006.. ولا أحد يعرف شيئًا عن أهلها.


 لكل ما سبق رصده؛ نرى وهج المظاهرات بالغرب -مواطنين وطلاب جامعات- لم يفتر؛ لأنّهم اعتادوا مناخ الحرّية والتّعبير عن آرائهم.. سواء أكانت المظاهرات مؤثرة في القرار السّياسيّ أو غير.. المهم أن يتحركوا ويعبروا ويستنكروا.


ولهذا رأينا "رونالدو" لاعب الكُرَة الأرجنتينيّ الشّهير " يبيع جائزته؛ وهي عبارة عن حذاءٍ ذهبيٍّ؛ ويعلن عن بناء مدارس بغزّ..ة بثمنها؛ ومن قبله "ستيفن هوبكنز" العالِم الفيزيائيّ -الذي يراه الكثيرون أفضل من إينشتاين- الذي قاطع أي نشاط علميّ إسرا..ئيليّ؛ حتى الكنيسة البروتستانية -كنيسة الأغلبية في الغرب- تعلن سحب جميع استثماراتها من البورصة من أي شركة لها علاقة بإسرا..ئيل.


وهكذا يواصل الغرب مقاطعة شركات وسحب استثمارات ونشر مجازر الاحتلال.. فقد كسر رَجُل الدّين عندهم والعالِم والطّالب والرّياضيّ حاجز الخوف ودافع عن حقه في التّعبير بحريّة.


مع تقديرنا لما يفعله الآخرون؛ علينا أن ننظر لأنفسنا.. للجيل الذي أفسده ما تحدثتُ عنه في بداية مقالي؛ من محاربة العقيدة والقيم والرّموز.. ولن أُكرّر ما كتبته آنفًا.. فالحلُّ إصلاح ما أفسدناه؛ وإعداد جيلٍ مسلمٍ عربيٍّ يعي رسالته وحضارته.. لا يَقبل الذّل ولا الهوان.. ورفْضُ الذين يُخدّرون الأمّة من المنافقين والمفسدين والمنتفعين وحملة المباخر.


علىٰ كل أمٍّ أن تُرضع أولادها كُرْه "بني صُـ.هيو..ن" كما يُرضعون هُم أبناءهم كُرْه العرب والمسلمين؛ علىٰ الكل أن يفكّر ماذا يستطيع أن يعمل لنُصرة القضية؛ سواء بالنّشر أو المقاطعة أو رفع الوعي وغيرها من الوسائل.. ولا يُقلل ممّا يستطيع؛ كي يعود الاهتمام ثانيةً بالقضيّة. 


علينا أن نفهم أنّ تحرير فلسـ.طين واجبٌ شرعيّ؛ وأنَّا جزءٌ من القضيّة لا مجرد داعمين لها.

ليست هناك تعليقات

نرحب دائما بتعليقاتكم