المستطيعون بغيرهم
الدكتور أحمد الصاوي*
مفكر قومي، باحث ومحلل سياسي
يبدو أن معاناة النخب السياسية في وطننا العربي ستستمر لأمد أطول لا يحول بينها وبين ترهلها وانفصامها عن جماهيرها شيء من الهزائم أو الانتصارات وكأنها تساق لمصير محتوم مغمضة العينين ومسلوبة الإرادة لا تتوقف للتفكير أو التمعن أو استجلاء ما وراء الأحداث اليومية والشعارات من حقائق أو حتى دروس وعظات.
وعندما أتحدث هنا عن النخب السياسية العربية فأنا لا أستثني في ذلك أحدا من تيار سياسي أو قطر عربي فكلنا كما يقال في الهم سواء.
علينا أن نواجه الحقائق العارية والمجردة دون الانجرار وراء محاولات البعض التنصل من مسئولية أو إلقاء التهم على غيرهم فنحن في خضم عملية تاريخية لعلها الأكثر دموية والأحفل بالخدع والمراوغات في تاريخنا قديمه وحديثه.
كنا كلا على غيرنا إلا قليلا: فكريا وتنظيميا وحركيا وآن الآوان بعد الخسائر المتتابعة والهزائم المتتالية أن نتوقف عن الادعاء بما لا ندركه إحاطة وبما لا نقوم به تخطيطا ونضالا.
علينا أن ندرك ابتداء أن "المستطيع بغيره" سيتوجب عليه أن يدفع الثمن لمن مد له يدا بأي شيء من تخطيط أو مال وتسليح ومعلومات وتقنيات...ألخ.
وأمتنا بالفعل تتحمل تبعات تسديد النخب المستطيعة بغيرها ما عليها من "ديون مستحقة" كانت تظن وهذا كله ظن الإثم أنها أبعد غورا وأشد ذكاء من " الممولين" وأن مسالكها المكيافيللية ستنجيها في نهاية المطاف وأنها ستغسل بالإنجاز ما علق بها من أدران "العمالة" شفاء للصدور من غل أو ثارات تاريخية.
لبئس ما اعتقد الاخوان المسلمين وهم يرفلون في خطط بريطانيا ثم أمريكا ويتمرغون في أموال الخليج فلا هم غسلوا عار عمالتهم بإنجاز ولا تخلصوا طوال قرن من الزمان من أغلال تربطهم هم وكل مشتقاتهم بحبائل أجهزة الاستخبارات الأجنبية
ولو مددت الخيط لمنتهاه فستجد كل المستطعين بغيرهم فيما يعرف تضليلا بالربيع العربي في ذات المأزق
لن أتحدث عن غير مصر حتى لا أعطي فرصة لترهات إقليمية بلا معنى.
كان حسني مبارك وريث السادات صنيعة أمريكية تلقى كل الدعم من واشنطون وكل العواصم التي توعز إليها بإقالة عثرات نظام حكمه وإبقاءه عائما على السطح دون أن يغرق في لجة الديون والفشل الاقتصادي.
ثارت الجماهير ضده وحاولت النخب أن تقود ثورتها ولكن المستطيعون بغيرهم وحدهم جنوا الثمار وتصدروا المشهد كل بحسب ما توفر له من دعم الداعمين وما خطط لهم ولا استثناء في ذلك لأحد من الاخوان المسلمين والسلفيين وأرباب المجتمع المدني والدكاكين العقائدية والأشخاص الطموحين كانت الخطوط الساخنة والتحويلات الفورية والأموال السائلة تتدفق من عواصم الإقليم بتوجيهات من كل أطراف التصارع على منطقتنا العربية.
كان من الطبيعي أن تنتهي عمليتي اقتراع بنصر مبين للذين أجزلوا العطاء منذ عدة عقود في التصويت على التعديلات الدستورية والانتخابات البرلمانية.
وحتى عندما رأت الجماهير نتائج هيمنة الاخوان المسلمين وحلفائهم على المشهد وما يتم جر البلاد نحوه لم تستطع النخب السياسية رغما عن كثرة مسمياتها ووضوح أهداف تحركها بل وقبول أغلبية المواطنين بتلك الأهداف لم تستطع بنفسها أن تزيح الإخوان ومشتقاتهم السلفية والجهادية من المشهد فلجأت إلى الجيش الذي مد يده بالعون لإنجاز ما عجزت عنه القوى السياسية.
وقتها تحدث الأستاذ محمد حسنين هيكل عن "الرئيس الضرورة" وهو تعبير رآه البعض ترويجا لترشيح قائد الجيش للرئاسة بينما هو فعليا يعني "تسليما" بحقائق على الأرض وليس عن رضاء بها ولكننا جميعا كنا نشعر بالقلق وكنا تحت ضغط إنجاز مرحلة تحول وحاولنا جميعا بل وحاولت قيادة المؤسسة العسكرية تجاوز ذلك بالضغط على عدلي منصور للترشح للرئاسة بعدة المدة الانتقالية لكن بالنتيجة كنا ندفع ثمن استعانة النخب السياسية بغيرها.
وكان على مصر كلها أن تسدد ولا زالت تفعل أعباء أن نخبها الوطنية لم تكن مستطيعة بنفسها لأسباب شتى ليس هاهنا مجال البحث فيها ولا معنى لإدعاء الحكمة بأثر رجعي.
ولا أرى ما جرى في تونس والعراق واليمن ولبنان وليبيا والسودان وسوريا مختلفا في مآلات جوهره عن ذلك ولا يمكن لكل الأحداث المتشابكة أن تحول دون المبصرين ودون رؤية أن كل الذين حملوا السلاح بدءا من مدافع رشاشة في صناديق سيارات الدفع الرباعي وانتهاء بالصواريخ والمسيرات كلهم "مستطيع بغيره"
أما "غيره" هذا فالحمقى وحدهم هم الذين سيسألون عنه أو ينكرون وجوده ولكن ذلك لن يغني من الحق شيئا ولن يمنع هذا الغير عن استمراره في توجيه غير المستطيعين واستبدالهم بغيرهم إن عصوا أو توقفوا إلى أن يستوفوا الأثمان من لحم الأعناق على طريقة شيللوك
علينا أن نتوقف عن المكايدات الصغيرة والأكاذيب الكبيرة والانجرار المقيت وراء الصراعات العبثية في دروب فرعية تبعدنا عن رؤية الحقائق الدامغة وارتكاب الأخطاء بموالاة الأعداء والانشغال بتصفية الحسابات عن مواجهة الأعداء الذين باتوا ليسوا على الأبواب فحسب بل وداخل أروقة بيوتنا جميعا.كل التفاعلا
ليست هناك تعليقات
نرحب دائما بتعليقاتكم