مستعمرات الطاقة الأمريكية
الدكتور أحمد الصاوي
مفكر قومي
قيادي مؤسس بالمؤتمر الناصري العام
التصريحات المدوية التي أطلقها ترامب بشأن سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على قطاع غزة لوقت طويل مع تهجير كامل سكانه من الفلسطينيين رثيما تتحول غزة إلى جنة يعيش بها البشر بمن فيهم الفلسطينيين هي كاشفة بسفور عن الأهداف الأمريكية في منطقتنا.
علينا قبل أن نشرع في بيان تلك الأهداف أن نذكر أنفسنا، والذكرى تنفع المؤمنين دون الغافلين، أن الهدف من إنشاء الكيان الصهيوني هو هدف وظيفي وليس بحال من الأحوال هدفا نهائيا بحد ذاته فوجوده يحقق الحفاظ على المصالح الامبريالية في السيطرة على موارد الطاقة والثروات التعدينية الأخرى التي تسبح فوقها بلاد العرب من الخليج إلى المحيط.
بدأ الكيان وظيفيته في ظل الهزيع الأخير من ليل حقبة الكولونيالية بما أقرته وثيقة كامبل بانرمان في ١٨٩٧م من أنه سيلعب دور الدولة الحاجزة Buffer State بين الأقاليم العربية في آسيا وبين تلك الواقعة في شمال أفريقيا وكانت بداية تنفيذ توصية لجنة بانرمان هي إصدار وعد بلفور ١٩٠٧ وما أعقبه من فرض الانتداب البريطاني على فلسطين والذي في ظله تم إنشاء الدولة اليهودية حسب منطوق قرار التقسيم في ١٩٤٧.
بالطبع هذا التذكير لا يخص المغفلين الذين حتى أنكروا وجود وثيقة كامبل بانرمان وسلالتهم ممن يرون أن العيش في سلام مه هذا الكيان الوظيفي هو ليس فقط أمرا ممكنا بل هو في شطط جهالتهم حكمة بالغة تعجز عن إدراكها أفهام العوام.
ليس هاهنا مجال استعراض البيئة التي ترعرت فيها تل أبيب لإجهاض أي محاولة للوصول لوحدة عربية ولكنها بيئة ساهمت قوى دولية ومحلية في تسميدها عضويا بشن الحروب العسكرية والاقتصادية والعقائدية والدعائية ويكفي فقط أن نشير لعنوان واحد وحيد هو ما يطلق عليه "الصحوة الإسلامية" في مجابهة القومية العربية فتداعياتها وتحولاتها شديدة الاقتران بمقتضيات تحقيق الأغراض الوظيفية للكيان وبالطبع أهداف من أوجدوا هذا الكيان واستزرعوه استزراعا.
وبعد أفول شمس الكولونيالية العتيقة طورت ورثيتها الامبريالية من وظيفية الكيان عبر خطط جديدة لا تتوقف عن هدف إعاقة نشأة كيان سياسي عربي واحد إلى تمزيق أشلاء الدول الإقليمية العربية لدويلات على أسس دينية أو طائفية أو عرقية ولابد من امتلاك معلومات كافية عن خريطة توزيع موارد الطاقة والثروات التعدينية في الوطن العربي لفهم فلسفة صياغة الحدود الجغرافية الجديدة التي يتم تدبيجها لدويلات المنطقة.
ما علينا..
نعود لتصريح ترامب الذي يؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية في هذه المرحلة الجديدة والتي تشهد صراعا ومنافسة مع كل من الصين وروسيا للسيطرة على الموارد والأسواق قد قررت أن تحتل بنفسها وتقوم بيدها لا بيد كوهين بإدارة مناطق الطاقة وفقا لقاعدة أنه إذا حضر صاحب المصلحة تتوقف وظيفة الوكيل.
لنا أن نتذكر أن الولايات المتحدة الأميركية تحتل فعليا مصادر الطاقة في سوريا وتريد أن توظف الأكراد لحمايتها وها هي تشرع في ذلك بقطاع غزة الذي تعوم سواحله على مخزونات هائلة من الغاز الطبيعي وصولا إلى مصر وليبيا والجزائر.
وغني عن كل بيان أن للسيطرة الكاملة على قطاع غزة هدف استراتيجي آخر ألا وهو السيطرة على قناة السويس أو إنشاء بديل عنها وهو البديل المعروف تاريخيا بقناة بن جورين ولكن هذا البديل سيتخذ مساره عبر سهل غزة وليس عبر النقب لتقليل كلفة واختصار زمن شق القناة الجديدة إن استعصى أمر السيطرة على قناة السويس.
علينا أن نوسع مدى الرؤية لنرى ما وراء حدود فلسطين ولاسيما ما يجري في العراق وسوريا ومصر وليبيا بل والسودان والجزائر فنحن أمام عودة ما لسمات الكولونيالية بغض النظر عن حداثة الذرائع وتعدد الوكلاء المحليين.
وإذا كانت تشكيلات قبلية قد تولت حماية مصادر الطاقة في مطلع القرن العشرين فإن تشكيلات جديدة هي مزيج من تشكيلات تستند لدعاوى عرقية وأخرى ذات طابع طائفي عقائدي(مستنبت من الصحوة الإسلامية ضد القومية العربية ونتاج الحث الطائفي على أساس ثنائية السنة/الشيعة) ستقوم بدور الوكلاء المحليين لضمان تدفق النفط والغاز والوصول الزهيد الكلفة للذهب واليورانيوم وما لا نعلمه من الثروات الكامنة في وطننا العربي.
نحن إزاء إنشاء مستعمرات الطاقة وما غزة إلا واحدة منها تلحق بمثيلاتها في سوريا وربما حان الوقت لأن نرى الدور التركي في سوريا من منظور "المنافسة" بين الحلفاء الوظيفيين لقضم أكبر ما يستطيعون من كعكة الطاقة.
وبعيدا عن الحسابات الآنية فلربما صار واجبا على ما تبقى من النخب السياسية العربية بعد عقود من تجريف الوعي ونشر الجهل أن تعكف على دراسة التطورات التي مرت بها منطقتنا العربية على صعيد تحليل استراتيجي متكامل الأبعاد يتجاوز أوهام الإقليمية ولا يغفل عن حقائق الصراع الاستراتيجية وتجلياتها المرحلية التكتيكية
ليست هناك تعليقات
نرحب دائما بتعليقاتكم